عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

«الوفد» ترصد حكايات الرعب والموت والدماء

فلسطينيات تحت قصف الاحتلال

بوابة الوفد الإلكترونية

حاملات ما تبقى معهن من مؤن وذكريات، تاركات وراء ظهورهن كل الأمانى والأحلام، واضعات نصب أعينهن مسئولية الأسرة والأبناء.

تروى الفلسطينتيان رنا المدهون وبسمة عياد لـ«الوفد»، قصصهما من قلب غزة تحت القصف والدمار، لتكون بين قصص أكثر من مليون فلسطينى وفلسطينية تعرضوا للقهر والقتل بسبب الاحتلال الإسرائيلى الغاشم، وما يقترفه يوميًا فى حق الشعب الفلسطينى من انتهاكات، فهناك آلاف من الشهداء فى القطاع، وآخرون تحت الركام، وغيرهم شاهدوا بيوتهم تُدك أمام أعينهم، ومنهم من فقد أحد الأحباء، ومنهم من نزحوا لينجوا بحياتهم مع من تبقى من الأهل والجيران، وتركوا مدارسهم وأحلامهم، يعانون الجوع والعطش والأمراض، ولكنهم لم يفقدوا الأمل.

 

 

رنا المدهون محامية فلسطينية، صاحبة الـ34 عامًا

تروى رنا لـ«الوفد» مدى المعاناة التى تعرضت لها من أجل النزوح والحفاظ على حياتها وحياة أسرتها الصغيرة، التى تتكون من طفلين هما الحسن 8 سنوات وميرا 6 سنوات، وزوجها صاحب الـ36 عامًا، والذى يعمل مهندسًا فى جمعية جباليا لتأهيل المعاقين بغزة، بالإضافة إلى طفلها الثالث الذى لم ير النور حينها، ولكنه عاش معها كل تفاصيل المعاناة.

نعم، فكانت رنا فى بداية حملها فى طفلها «أوس»، فى ظل ظروف صحية صعبة للغاية، وذلك تزامنًا مع بدء الحرب على غزة فى السابع من أكتوبر، وهو ما زاد الأمور سوءًا.

تقول رنا: «كنت أسكن أنا وأسرتى فى غزة بشارع الجلاء، وفى الأسبوع الأول من الحرب قصف بيت مجاور للبرج السكنى الذى أسكن فيه، وذلك حدث دون سابق إنذار، وكنت فى تلك الفترة أستضيف فى بيتى أهلى الذين اضطروا لإخلاء منزلهم فى منطقة المقوسى بعد تعرضها لقصف شديد واتصالات بالإخلاء من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلى».

وتابعت: «غادرنا أنا وأهلى من بيتى خوفًا من استهداف البيت المجاور مرة أخرى، ولجأنا إلى بيت أهل زوجى فى تل الهوا، بعد ثلاثة أيام وصلنا خبر استهداف شقق سكنية فى البرج الذى كنت أسكنه، واستشهد جيرانى وتعرض منزلى لأضرار بليغة وأصبح غير صالح للسكن».

وأشارت إلى أنها تأثرت كثيراً وأصبت بصدمة عارمة ماذا لو كنت بقيت فى بيتى؟ هل كان من الممكن أن أكون أنا وأطفالى من الضحايا والشهداء؟ هل كان بمقدرتى أن أحمى أطفالى وجنينى الذى فى رحمى؟.. ولكن سرعان ما استعدت قوتى من جديد لكى أستطيع أن أصمد أمام أبنائى الذين لا ذنب لهم بكل ما يحدث، ويجب ألا يروا منى سوى الصمود من أجل البقاء على الحياة، وبالفعل حاولت استعادة قوتى وهمس فى أذنى صوتاً يقول لى:«القادم أصعب وأقسى ولكن هناك من يستحق الحياة».

كان تل الهوا الملجأ الوحيد لى بعد تدمير بيتى وبيت أهلى وبعد صعوبة رحيلنا إلى الجنوب كما طلب الاحتلال من جميع سكان شمال القطاع، اضطررت أن أعيش فيه لمدة أسبوعين، كانوا الآدمى والأشد والأصعب، تعرضت المنطقة لأحزمة نارية لا يمكن وصفها مهما تحدثت، 50 صاروخا على الأقل بشكل متتال خلال ساعة، واستمر لمدة 3 ساعات، الأرض تزلزل تحتنا من أصوات حجارة وزجاج.

البيت مضاء بلهيب نيران مشتعلة حول البرج، تكرر هذا المشهد لمدة 3 أيام متتالية، من الرعب كنت أحضن أولادى وأحاول أن آخذهم إلى أأمن مكان فى البيت، ثم صمتت للحظة وقالت: «كان كل تفكيرى فى تلك اللحظة العصيبة أننا إذا استشهدنا نكون كلنا سوا وإذا صرنا تحت الأنقاض ممكن نقدر نساعد بعض».

«إحنا لسا عايشين؟»

فى صباح كل يوم كنت أستغرب: «هو إحنا لسا عايشين؟».. هكذا كانت تصف رنا شعورها مع بداية كل صباح، مضيفة: «طول النهار مستمرين فى تدبير أساسيات الحياة وتجهيز بعض المؤن ومستلزمات أطفالنا حتى نستمر فى البقاء على قيد الحياة، وعلى الرغم من شح الأشياء إلا انه الحمد لله كنا قادرين تدبير حالنا على قدر المستطاع». 

وتقول رنا: «فى يوم من الأيام سعدت أن وجدت صيدلية وأحضر العلاج الضرورى من فيتامينات وعلاج التجلطات والحديد حتى أستطيع الصمود والحياة، ولكن الأيام اشتدت أكثر وصارت تهديدات لمستشفى القدس القريب جدًا من البرج القانطين فيه والقصف صار ليل ونهار وبشكل كثيف وعلى بعض الأبراج، وفى يوم كنا جالسين للغداء سمعنا جارنا بينادى أخلو البرج بسرعة لأن هناك تهديداً بقصفه.

البكاء جوايا مكتوم

أخلوا البرج وخرجت أنا وأهلى على مدرسة إيواء مقابل البرج لحين اتخاذ قرار اللجوء إلى مكان فى هذه اللحظة العصيبة، ولكن لم يسعفنا الوقت فى تلك اللحظات الصعبة المريرة وتم قصف برج مقابل المدرسة وكانت من أقسى المشاهد على أطفالى، بل وكان الأشد وجع وتعب جسدى ونفسى علينا، وبكيت كثيراً مع أطفالى، ولم أستطع فى تلك اللحظة أن أتحمل الصمود أكثر من ذلك، مضيفة: «كنت محتاجة أبكى كتير.. البكاء جوايا كان مكتوم خوفى ووجعى متحملوش الصمت أكتر من كدة».

قصف البيت فى تل الهوا وفقدنا البرج السكنى وجميع أغراضنا وذكرياتنا الحلوة والصعبة وحياتنا كلها، عشنا لحظات خوف مريرة، وأيام صعبها كان أكثرها بشاعه هو فقداننا للمنزل، فقد فقدنا معه الأمان الأخير، وفى تلك اللحظات قرر خطيب أختى يستقبلنا فى بيته فى وسط مدينة غزة انتقلنا للسكن هناك، وكل فترة أصعب وأقسى بكتير من سابقتها، فانقطعت كل سبل العيش، المياه الصالحة للشرب، الغاز اللازم للطهى، الخضار، الحليب، الدقيق، أصبح كل شى صعب توفيره، وان استطعنا توفيره يكون بكمية قليلة جداً، مضيفة: «فى الفترة دى صاروا أطفالى بخوف شديد وجوع شديد وأنا ووالدهم أصبحنا غير قادرين على توفير اى شىء لهم، حتى الأمان أصبح شىء صعب جدا، مسؤولية كبير وشعور صعب وقاسى إنك تكون أب أو أم بغزة، فى لحظة أنك مش قادر توفر لأطفالك الأمان».

مياه غير صالحة للشرب 

«كنت أنام ببكى كتير لأنى جائعة وخجلانة أحكى، لأنه أطفالى أولى بالأكل اللى بنقدر نوفره بصعوبة جدا كل يوم، وفى مرة اضطريت أشرب مياه مالحة غير صالحة للشرب لمدة 3 أيام، لأوفر الصالحة لأبنائى، حتى تعرضت لنزلة معوية حادة وبعدها توقفت عن شرب المياه ليوم واحد، لإن ممكن أتحمل العطش بس مقدرش أتحمل الوجع بدون وجود صيدليات وأدوية».

وأضافت: «عشنا أياما مليئة بالألم والخوف الكبير، بسبب القصف المستمر، وبشكل كثيف وشديد رجعت الأحزمة النارية على المنطقة التى أسكن فيها ولم أعد قادرة على أن أسيطر على خوفى وخوف أطفالى، وبعد 10 أيام عشت فيهم ببيت خطيب أختى تقدم الاجتياح البرى وتفاجأنا باشتباكات عنيفة جدا ووصول الدبابات للمنطقة وصار السكان والنازحين فى المدرسة المجاورة يتصلوا بالصليب لمساعدتهم بالاخلاء ولكن حتى خدمات الصليب كانت متوقفة، خرجنا من الموت بأعجوبة وقررنا أن نتوجه لجنوب قطاع غزة رغم الخوف الشديد، حيث كانت روايات النازحين عن الطريق مرعبة وإنه الممر الأمن الذى يتحدث عنه الاحتلال هو ممر الموت اضطررنا للمشى لمدة ساعتين نحمل فيه مقتنياتنا الشخصة وأطفالنا الذين يملأ عيونهم وقلوبهم الخوف والرعب، ونظرة فى عيوننا جميعا ملئية بالذل والقهر».

وأكملت: «خلال هذه الساعات الصعبة التى كنا نركض فيها نادى الجنود على 3 أشخاص عبر مكبر الصوت بالتقدم نحوهم ونادى على الأخر برمى مقتنياته الشخصية، وبعدها بدقائق سمعنا إطلاق نار، أصبت بالذعر فلا استطيع أن ألتفت خلفى لأطمن على أبنى فهو مع جدته يساندها ويحتمى بها، عبرنا وهذه المرة الأولى فى حياتى أتمنى أن يكون الموت أقرب لى من الحياة من شدة التعب الجسدى والنفسى وخوفى من حصول أى مضاعفت تأثر على الحمل، وكنت دائما أفكر أنه فى الجنوب الوضع ليس أفضل حالا ولا بالأمان، ولكنه أمر ليس فيه خيار، وعلى الأقل استطعنا فى بداية نزوحنا إلى الجنوب توفير العلاج وبعض الخضروات التى من الممكن إن تعوض بعض النقص والخلل الغذائى عن الفترة السابقة».

وتابعت: «كان القصف فى الجنوب مستمر للغاية والخوف لا يزال هو الشعور الأقسى، وذلك لاقتراب موعد ولادتى، فى ظل هذه الظروف الصعبة.. فكنا أسال نفسى كل يوم كيف سأضع طفلى بعملية قيصرية دون وجود بنج، أو بأدوات غير معقمة، كان كل الشعور الذى يسيطر على فى هذه الفترة، هو الخوف من فقدان جنينى، أو أحد أطفالى، وللاسف وصلت للشهر التاسع، وذهبت إلى أقرب مستشفى وهى المشفى الوحيد فى المنطقة، وبالفعل لم يكن الوصول سهلا، وذلك لشح وسائل المواصلات، واضطررت أن أمشى مسافة بعيدة جداً بشارع مزدحم بالناس ومياه الصرف الصحى وعوادم بعض السيارات التى تمشى على زيت الطهى برائحة كريهة وملوثة، وبعد أن وصلت إلى المستشفى فاجأتنى الطبيبة أن موعد ولادتى بعد 10 أيام من الآن.

ولم تتوقف معاناة رنا عند تلك اللحظة بل حدث ما هو أفظع وأصعب، ولأنها فى بلد الحروب وعدم الأمان، تفاجأت رنا بإنذار من الجيش مرة أخرى لإخلاء المنطقة التى نزحت إليها من الحصول على الأمان لوضع طفلها الثالث، والتوجه إلى منطقة أخرى وهى (من البريج إلى رفح)، وكان الأمر ليس بهين عليها وعلى حالتها النفسية غير المستقرة بسبب آلام الحمل الأخيرة، فى ظل عدم وجود أى مأوى، حتى اضطررت أن تتواصل مع معظم الأصدقاء فى منطقة رفح لاستقبالها هى وعائلتها لمدة أسبوع الولادة فقط.

كل يوم يأتى الصبح دون موت.. معجزة

وذكرت أنها وصلت رفح بدموع القهر والحزن والتيه، محاولة وجود مأوى، باحثة عن احتياجاتها هى وأسرتها، فلا سرير ولا فراش ولا غطاء يؤوى هذه الأسرة الضعيفة، واستمر هذا الألم مصاحبا للحظات أكثر قسوة، بسبب ولادتها، فقد وضعت طفلها الصغير عن طريق الولادة القيصرية، بعد أن مرت بأصعب اللحظات من أجل البحث عن مستشفى تكون الأقرب والأنسب للولادة، وهى مستشفى الخير بخانيونس المحاصرة، وتقول رنا: «مريت بأصعب لحظات حياتى، كنا هموت من الخوف والرعب عندما رأيت جنود الاحتلال يجبروب سيدة أن تسير بمولدها فى ساعة متأخرة جدا من الليل، والبرد القارص فى منطقة تجهل معالمها، وذلك بعد تهديها بالقتل لو تلفتت أو غيرت الطريق التى رسمها لها.. بكيت عليها كما لو أنى أنا التى شهدت ذلك لأنه لم يكن ببعيد عنى ولولا عناية الله.. ففى كل يوم يأتى الصبح دون موت.. فهو معجزة». 

وأشارت إلى أن الظروف لم تكن جيدة أو مناسبة لحالتها الصحية أثناء الحمل، بل كانت فى أمس الحاجة لسرير حتى تستطيع النهوض، وذاك لأن النوم على الأرض مع عملية قيصرية يعنى أن تصرخ كلما اضطررت إلى النهوض من المكان، مؤكدة: «تحملت كثيراً وكان كل همى أن أكون صامدة أمام عائلتى، حتى يبقوا أحياء بالأمل».

وما زاد الأمور سوءاً وحزناً هو صراخ طفلى الرضيع ليلا ونهارا بسبب اضطراب الأمعاء وأنا أقف أمامه عاجزة أبكى معه من شدة القهر والألم، فلم أترك مكان إلا بحثت فيه عما يدفىء جسمه الصغير، فالغطاء ليس كافى وملابسه غير مناسبة، وأصبت كثيرا خلال شهر واحد بالانفلونزا الشديدة، التى أثرت على رضيعى، ولم نجد طريقة لنخفف عن صدره الألم، فمن الصعب أن تصل المستشفى الآن لأنك ستخرج بأمراض قبل أن تعالج مرضك.

واختتمت رنا حديثها للوفد قائلة: المضحك المبكى أننا فى يوم استطعنا أن نوفر بعضا من زجاجات الحليب لأطفالى، الذى نسينا طعمه منذ شهور طويلة جدا، كان بالنسبة لنا فرحة عظيمة، وكأننا أول مرة نعرف مذاقه، ولكن فرحتنا لم تكتمل، فاستيقظنا على طفح جلدى ينتشر فى كل جسمنا يؤلمنا كثيراً إلى حد لا يتخيلها أحد، وتأكدت مما كان يخيفنى حينها، بعد أن بحثت عن تاريخ الصلاحية ووجدته منتهى منذ فترات بعيدة للغاية، وفى تلك اللحظة كنا معرضين لكارثة أخرى، فى حين عدم توافر مستشفيات للعلاج، أو حتى الحصول على الأدوية المناسبة من خلال الصيدليات.

خرجنا من غزة لكنها لم تخرج منا

كنت أعيش فى مدينة غزة، متزوجة وأم لثلاث بنات، جوانا عمرها 20 عاما، وميرا 18 عاماً، ونتالى 14، وزوجى كامل عياد فى الـ50 من عمره، وأنا أبلغ من العمر 40 عاماً، كانت أجمل أيام حياتى كانت فى هذه المدينة الجميلة، خاصةً إنى كنت أعيش هناك بجانب بحر هذه المدينة، نحن غزاويون وحتى بعد خروجنا من غزة لم تخرج هى منا، فلك السلام وستظلين أرض السلام والزيتون حتى القصف والدمار والخراب، قبل الركام وبقايا المنازل يا غزة، بتلك الكلمات العظيمة، المليئة بالعزة والكرامة.