رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

خارج السطر

فى سنة 1950 أنعم الملك فاروق بنيشان النيل على محمد حسن الشماشرجى الخاص به تقديرا لاخلاصه وتفانيه فى عمله. ولم يكن الرجل سوى خادم نوبى بسيط يبتسم فى وجه الملك كل صباح، ويساعده على ارتداء ملابسه، والعناية بهندامه، والدعاء له، لذا فقد تندر الناس بذلك النيشان وسموه «نيشان الشماشرجي».

ولقب الشماشرجى لم يكن سوى إشارة لمهنة عرفت فى الدولة العثمانية، فالكلمة مشتقة من الكلمة التركية «جامشرجي» ومعناها غاسل الملابس، وكانت تطلق على كُل مَن يقومون بأعمال بسيطة، غير مهمة مثل تلبيس الأمراء والأثرياء. وبطبيعة الحال، فقد انتقل المصطلح  لمصر والتى كانت ولاية عثمانية لأكثر من أربعة قرون، لكن مفهومه اتسع ليشمل أولئك الذين يقومون بفتح الأبواب فى القصور، وممارسة أى أعمال خدمة لساكنيها. 

ويبدو أن الثقافة الشعبية فى مصر قد استطابت الكلمة، فالتقطتها، وعددت إشاراتها، ووظفتها لممارسة النقد الشعبى لأولئك التافهين قيمة وعلما والذين يملأون المجالس، ويجلسون إلى جوار القيادات يتغنون بمآثرها، ويهللون لكل فعل، ويزينون لها كل مُنكر. وهم فى الأغلب لا يجيدون عملا جادا ولا يمتلكون مهارة، ولا تحركهم مبادئ، أو تحكمهم قيم. إنهم يقولون ما يريد مرؤوسوهم أن يسمعوه، ويرسمون على وجوههم ابتسامات ذليلة كاذبة، ويدّعون حبا لم يزر قلوبهم، ثم يمدون آذانهم فى كل زاوية ليسترقوا السمع، ويثبتوا الولاءات بنقل الأسرار.

كان أنطون بوللى أحد أشهر الشماشرجية فى تاريخنا الحديث، ولد بميلانو سنة 1908 وفشل فى التعليم، فسافر إلى مصر بحثا عن عمل،  ولم يجد سوى وظيفة كهربائى فى إحدى شركات الصيانة بالقاهرة. وفى الثلاثينيات أوفدته الشركة إلى سراى الملك لتركيب أنظمة تدفئة، وإصلاح الإضاءة، لكنه كان كهربائيا فاشلا، لذا فقد استغل الزيارة فى اضحاك المشرفين على العمل بالقصر، فعينوه كهربائيا هناك. وبفضل التذلل والتملق الزائد تقرب بوللى من سادة القصر، حتى وصل إلى الولد اليافع فاروق، فاستحوذ على  قلبه. ورويدا صار مسئولا عن إسعاد الملك، ثم أصبح مسئولا عن حفلاته الخاصة، وسهراته. ومن بعد تفجرت الفضائح، واهتزت المملكة المصرية بحكايات مُزرية ومُشينة اعتبرها المؤرخون مسامير عميقة فى نعش الملكية.

 وعندما سقط الملك فاروق، وتنازل عن حكم مصر، واضطر إلى الخروج، طلب اصطحاب بوللى معه، لأنه الرجل الوحيد الذى يسعده، لكن ضباط يوليو رفضوا بشكل قاطع، فبكى الملك متصورا أنهم حرموه من صديقه وأحد المحبين المخلصين له. وفى اليوم التالي، وكما ذكر المؤرخون كان بوللى متطوعا للمثول أمام اللواء محمد نجيب ليجلس معه فى حضور زكريا محيى الدين، وصلاح نصر، ليحكى لهم كل أسرار الملك ومخازيه بتفصيل كامل، ثم قدم لهم معلومات وافيه بشأن المخابئ السرية لأمواله، وطرق تهريبه للذهب معه. كان الكهربائى الإيطالى خائنا بامتياز، ولم يكن فى قلبه ذرة محبة واحدة.

فيما بعد عرفنا فى دوائر الحكم شماشرجية كُثرًا اعتبرهم الناس حاشية السوء، وقرأنا قصصا لا حصر لها عن خطاياهم التى حملوها معهم إلى قبورهم. وخارج دوائر السياسة، فى الإدارات المختلفة، فى الجامعات، فى المؤسسات الكبرى والصغرى، فى أماكن العمل، وفى كل موقع ببلادنا الطيبة كان هناك بوللى آخر يتغنى بمحبة القادة، ويدعى الإخلاص الشديد لهم. يتشقلب كل يوم أمامهم مبهجا، يصفق على كل شىء، وينحني، ثم ينحني، ويتذلل متصورا أن رزقه وسعده رهين ذلك الذُل، ولا يُدرك أن أحدا لا يمت دون رزقه المقسوم، لكن كثيرين على هذه الأرض يموتون دون كرامة. 

والله أعلم

 

[email protected]