عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

ونس الدكة

من أجمل ما قرأت عن المغزى الروحى والفلسفى لشعيرة الحج المباركة والتى تهفو إليها قلوب المسلمين فى كل بقاع الأرض متضرعين إلى الله عز وجل أن يكون لهم نصيب ممن استطاعوا إليها سبيلًا، مقال كتبه الطبيب والفيلسوف والمفكر مصطفى محمود (27 ديسمبر 1921-31 أكتوبر 2009) تحت عنوان: هل مناسك الحج وثنية؟ ثم أرفقه فى كتابه الشهير «حوار مع صديقى الملحد» الذى صدر عام 1970، وفى الكتاب يتخيل الدكتور مصطفى محمود أنه يتحدث إلى صديقه، رجل يحب الجدل ويهوى الكلام وهو يعتقد أننا نحن المؤمنين السذج نقتات بالأوهام ونضحك على أنفسنا بالجنة والحور العين وتفوتنا لذات الدنيا ومفاتنها. وصديقه بهذه المناسبة تخرج من فرنسا وحصل على دكتوراه وعاش مع الهيبيز وأصبح ينكر كل شيء.

مقال الدكتور مصطفى محمود قرأته عشرات المرات وتحديدًا فى كل موسم حج، وفى كل مرة يزداد يقينى أنه خلاصة رحلة الإنسان حينما يتأرجح بين العلم المادى وبين الروحانيات بكل ما فيها من سلطة غيبية ووصل بالذات الإلهية.

ولأننى كسائر المسلمين البسطاء أحب الله بكل جوارحى وبيقين إيمانى لا يتزعزع، فقد انشرح صدرى حينما اكتشفت مقال الدكتور مصطفى محمود وواظبت على قراءته منذ عشرات السنين ليرد به على ذلك الملحد الافتراضى، لأننى بفطرتى التى تتشابه مع الكثيرين وصلت إلى هذا اليقين دون أن أعلم ما وراءه من رموز وفلسفة، ولكن فى البصيرة راحة للعقل ومدد لقهر أعداء الدين.

أما الآن فسوف أورد جزءًا من هذا الحوار الرائع وأتمنى أن يرجع له كاملًا كل عاشق يدور فى الفلك الإلهى بفطرته ليدرك جمال الدوران وعمقه وعظمته.. نص الحوار: قال صاحبى وهو يفرك يديه ارتياحًا ويبتسم ابتسامة خبيثة تبدى نواجذه وقد لمعت عيناه بذلك البريق الذى يبدو فى وجه الملاكم حينما يتأهب لتوجيه ضربة قاضية:

ألا تلاحظ معى أن مناسك الحج عندكم هى وثنية صريحة؟

ذلك البناء الحجرى الذى تسمونه الكعبة وتتمسحون به وتطوفون حوله، ورجم الشيطان.. والهرولة بين الصفا والمروة، وتقبيل الحجر الأسود.. وحكاية السبع طوفات والسبع رجمات والسبع هرولات وهى بقايا من خرافة الأرقام الطلسمية فى الشعوذات القديمة، وثوب الإحرام الذى تلبسونه على اللحم.. لا تؤاخذنى إذا كنت أجرحك بهذه الصراحة ولكن لا حياء فى العلم.

وراح ينفث دخان سيجارته ببطء ويراقبنى من وراء نظارته.

قلت فى هدوء: ألا تلاحظ معى أنت أيضًا أن فى قوانين المادة التى درستها أن الأصغر يطوف حول الأكبر، الإلكترون فى الذرة يدور حول النواة، والقمر حول الأرض، والأرض حول الشمس، والشمس حول المجرة، والمجرة حول مجرة أكبر، إلى أن نصل إلى «الأكبر مطلقًا» وهو الله.. ألا نقول «الله أكبر».. أى أكبر من كل شيء.. وأنت الآن تطوف حوله ضمن مجموعتك الشمسية رغم أنفك ولا تملك إلا أن تطوف، فلا شيء ثابتاً فى الكون إلا الله هو الصمد الصامد الساكن والكل فى حركة حوله.. وهذا هو قانون الأصغر والأكبر الذى تعلمته فى الفيزياء.. أما نحن فنطوف باختيارنا حول بيت الله.. وهو أول بيت اتخذه الإنسان لعبادة الله.. فأصبح من ذلك التاريخ السحيق رمزًا وبيتًا لله..ألا تطوفون أنتم حول رجل محنط فى الكرملين تعظمونه وتقولون إنه أفاد البشرية، ولو عرفتم لشكسبير قبرًا لتسابقتم إلى زيارته بأكثر مما نتسابق إلى زيارة محمد عليه الصلاة والسلام.. ألا تضعون باقة ورد على نصب حجرى وتقولون إنه يرمز للجندى المجهول؟ فلماذا تلوموننا لأننا نلقى حجرًا على نصب رمزى نقول إنه يرمز إلى الشيطان.. ألا تعيش فى هرولة من ميلادك إلى موتك ثم بعد موتك يبدأ ابنك الهرولة من جديد وهى نفس الرحلة الرمزية من الصفا «الصفاء أو الخواء أو الفراغ رمز للعدم» إلى المروة وهى النبع الذى يرمز إلى الحياة والوجود.. من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم.. أليست هذه هى الحركة البندولية لكل المخلوقات.. ألا ترى فى مناسك الحج تلخيصًا رمزيًا عميقًا لكل هذه الأسرار؟

إن مناسك الحج هى عدة مناسبات لتحريك الفكر وبعث المشاعر وإثارة التقوى فى القلب.

ولو وقفت معى فى عرفة بين عدة ملايين يقولون الله أكبر ويتلون القرآن بأكثر من عشرين لغة ويهتفون لبيك اللهم لبيك ويبكون ويذوبون شوقًا وحبًا، لبكيت أنت أيضًا دون أن تدرى وتذوب فى الجمع الغفير من الخلق وأحسست بذلك الفناء والخشوع أمام الإله العظيم مالك الملك الذى بيده مقاليد كل شيء.