رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

عصف فكرى

فى بلدة عربية نائية، كُنت أسير بصحبة صديق من أهلها، ومعنا آخر أوروبى، عندما أفزعنى حجر طائر كاد أن يصيبنا إصابة مُباشرة، لولا انتباهة فطرية مكنتنا تفاديه. نظرت إلى صاحبنا الأوروبى، فقرأت فى عينيه هلعًا مُنكتمًا، بينما كان ثالثنا المستضيف يبتسم فى برود باعتبار الأمر اعتياديًا. وقال لى صاحبى، وهو يضحك إن الأطفال فى أزقة هذه المدينة لا يحبون الأغراب، ويتصورون أن كل غريب شر يجب مقاومته. أبديت دهشتى للرجل، لكنه أفادنى بأن الأطفال يمارسون هذه العادة المخيفة توارثًا عن أجيال سابقة اعتبرت الأغراب، جميعهم أعداء.

من بلد لبلد، ومن مدينة لأخرى تتعدد أساليب مواجهة الأغراب فى العالم العربى، وتتدرج من المقاطعة إلى الاشتباك المباشر، تحت تأثير رُهاب خاص يُسمى رُهاب الأجانب، ويطلق عليه علميًا مصطلح «الزينوفوبيا»، وملخصه هو أن ننظر بتشكك وتربص لكل أجنبى، ونعتقد أنه لا يمكن أن يكون سوى عدو، وأن الشعور الطبيعى المفترض تجاهه هو الحذر ثُم الحذر، والأولى تجنبه، والابتعاد عنه.

ولا شك أن شعوبنا العربية لديها ميراث كبير ومتراكم من «الزينوفوبيا»، يدفعنا للتساؤل عن أصول هذا الميراث. وهنا فإن التاريخ يقدم لنا تفسيرًا منطقيًا حول هذا الإرث. فالشرق والمنطقة على وجه خاص، عانت لعدة عقود معاناة قاسية وصعبة نتاج الاستعمار الغربى، الذى انقضت فيه دول العالم المتقدم، العالم الشمالى، الأوروبى، على دول العالم المريض أو النامى، فاحتلتها ونهبت ثرواتها وتحكمت فيها وارتكبت خلال ذلك موبقات وجرائم مثلت ذكريات موجعة للناس، واختلطت بتراثهم وامتزجت بثقافاتهم. إن أحدًا لا يمكن أن ينسى جرائم الأوروبيين ضد أجدادنا الذين عُذبوا وشردوا وسجنوا وقتلوا ظُلمًا فى إطار مقاومتهم للاحتلال.

لكن المُشكل أن رُهاب الأجانب لا يخُص أصحاب جنسية الدولة المحتلة مثلما هى النظرة للإنجليز لدى المصريين والعراقيين، أو النظرة للفرنسيين لدى الشعب الجزائرى أو السورى، وإنما هو يتسع ويمتد إلى كل الأجانب سواء الأوروبيون أو الأمريكيون، أو بمعنى آخر «الخواجات» عمومًا، وهو ما يُمثل لُغزًا يتجاوز مبرر الاستعمار.

ناهيك عن أن الاستعمار نفسه مر عليه أكثر من نصف قرن، وانتهى كتوجه لدى الدول الحديثة، ووصل بالأجيال الآنية إلى التبروء والاعتذار عما اقترفه الجدود، مُقررين أن التعايش والتعاون أسمى من احتلال البلدان وسلب خيراتها.

<<<

فى مصر يعتبر عبدالحليم حافظ مطرب ثورة يوليو المثالى، تغنى بانتصاراتها الميكرفونية، وبرر خطاباتها اللاعقلانية، وعظّم قائدها. وللرجل أغنية شهيرة بعنوان «ذكريات» أنتجت سنة 1961 بألحان محمد عبدالوهاب، وكلمات أحمد شفيق كامل تؤرخ للثورة وما ادعته من أمجاد. والمهم أن بعض كلمات الأغنية تحمل تعبيرات قاسية تجاه الأجانب بشكل عام باعتبارهم أصل كل شر وسوء دون تركيز على الإنجليز المحتلين وحدهم. فتقول «واحنا ف مصر الجديدة دا كان زمان.. الجيران من كل جانب. كانوا أكترهم أجانب».

كانت مصر حديثة عهد بالتحرر، وكان العالم العربى كله كذلك، لكن السلطات الجديدة لم تتعامل بعقل لتحديد التوجه الحماسى السلبى تجاه العدو السابق وحده، دون توسيع للنطاق ليشمل كل أوروبى «وشه أحمر» بتعبير بعض كلمات الأغنية ذاتها.

لم يكن للعقل موضع فى ظل الحماس الوطنى الصاخب احتفاء بالاستقلال والتحرر، فوقعت النخب فى فخاخ التعميم، وصار الأجانب عموما، محتلين أو غير محتلين خطرًا، حتى أن شعوبا مسالمة وقريبة من الشعوب العربية سلوكا مثل اليونانيين والأرمن والقبارصة غادروا وهاجروا بعد أن شملتهم القرارات المتربصة، والدعوات المُشككة.

فى جريدة أخبار اليوم بتاريخ 9 فبراير سنة 1957 نقرأ للكاتب الكبير مصطفى أمين عمودًا صحفيًا باسم «الموقف السياسي» عنوانه «الأجانب فى مصر» يشن فيه حملة شعواء على الأجانب عمومًا ويبرر فيها قرارات زعيم الثورة ضد الأجانب وممتلكاتهم والتى أدت إلى فزع عام. يقول الكاتب فى عموده «فالأجانب فى مصر لم يتعودوا أن يعاملوا معاملة المصريين، فقد كان لهم امتيازات، وكان يترتب عليها حقوق مقدسة، والآن لم تعد هذه الامتيازات كما كانت لأن مصر صارت ملكًا لأبنائها».

وشاعت فيما بعد الدراسات البحثية الملتحفة بالصفة الأكاديمية التى صبت غضبها على كل ما هو أجنبى، فصدرت كُتب عن جرائم الجاليات الأجنبية، واستغلالهم لخيرات البلاد، وكُتبت روايات لتصوير كل خواجة وكأنه شخص استغلالى، جشع.

وصاحب ذلك انكار عام لمحاسن الجاليات الأجنبية فى البلاد، وآثارهم الطيبة على الفنون، والثقافة والعمارة والاقتصاد وباقى مناحى الحياة، وهو ما آثارتنى تفاصيلها قبل سنوات وأنا أعد كتابى «سبع خواجات» الذى تناول سير رواد الصناعة الأجانب فى مصر.

<<<

لم يمر وقت طويل على المد الوطنى وعنفوانه الحماسى وخلطه بين المحتل وغير المحتل من الأجانب حتى كان العالم العربى على موعد مع مد جديد، تأثر بحدث تاريخى فى المنطقة كان أولهما هزيمة يونيو 1967، وهو المد الدينى الذى اتسع ونما وتغلغل فى المجتمعات العربية بقوة.

ورغم الأصول القيمية الثابتة فى النصوص الدينية الإسلامية، بالتعايش السلمى مع الآخرين، وضرورة التعارف بين الشعوب والقبائل، فإن كوادر المد الدينى وظفوا نصوصًا أخرى بعينها ليحملوا عداء سافرًا وأبديًا تجاه الآخر، كل آخر. وهذه استكملت الزينوفوبيا عوامل تمددها واتساعها، فالآخر فى الخطاب الأصولى السياسى، مخالف لمنهج الله، ومَن ثم فهو كافر، وكل كافر هو بالضرورة عدو لله، والموقف منه هو موقف عدائى دائم.

ووجدت النظرة التربصية للأجانب بيئة صالحة فى أوساط نُخب لم تستخدم سوى نظرية المامرة لتفسير ضعفها وهوانها، وصرنا جديرين بالانغلاق على الذات، فخسرنا وخسرنا.

والله أعلم

 

[email protected]