عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

عفوًا أمي.. إنها زوجتي!

عفوًا أمي.. إنها
عفوًا أمي.. إنها زوجتي!

 استيقظت فزعة من نومها كمن أصابها مس أو جنون، فقد طال ليلُها واسودّ جانبه، صرخت صرخةً عالية قطعت سكون الليل من حولها، وزرعت داخلها مخاوف لا تُطاق وهلعًا لا يُحتمل، أطلقت آهةً تصدّعت لها الجدران، تترقب لحظات الشروق، وهي تبكي، وتشهق شهيقًا مرًا من هم ثقيل جثم على قلبها.. ومن غير بعيد يصدح آذان الفجر في كبد السماء.

انجلى الليل الطويل واستنار الصُبح وأذهب دياجير الظلام، بدأت السيدة الستينية "ماجدة. ح" في تجهز كومة الأوراق وإرفاقها داخل حافظة المستندات بدّقة كي لا تنسى شيئًا قبل الذهاب إلى المحكمة، تُلملم أوراقها بدموعها، حاسمة قرارها بمقاضاة "ابن عمرها"، الذي طردها من شقتها بالاتفاق مع زوجته، ليستوليا عليها وحدهما "وبأمر المحكمة"، الأمر ليس هيّنا عليها على الإطلاق فكلما تذكرت جُرم ابنها "عادل. ع" في حقها دقّ قلبها بقوة وعنف لا عهد لها بهما، فكيف لفلذة كبدها الذي شاب شعرها عليه، واستحال شبابها إلى حُطام في تربيته أن يتآمر عليها بكل خسّة ودناءة مع زوجته التي سمح لها أن تحرّكه كالدّمية!

قرّرت "ماجدة" الانصراف في الحال، خطواتها مترددة تقَدّم قدمًا وتؤخر أخرى، ثم نظرت إلى السماء مشرئبةً بعنقها، بوجه يخيمُ عليه البؤس وتكسوه الكآبةُ، وعينين حائرتين بائستين، فيهما من الوجعِ ما لا يُطاق، وأخفضتهما باكيتين تنهملان بالدموع، الخذلان لسان حالها طوال طريقها، وما إن وصلت إلى المحكمة حتى انهارت على عتباتها، تحصد زرعتها في نجلها وهي صفر اليدين، لا تملك سوى قلب مكلوم وقصة وجع وشلال دموع!

كرَّست حياتها من أجله.. العجوز تقاضي ابن العمر

بالقرب من قاعة الجلسات بمحكمة القاهرة للأمور المستعجلة، استقرت السيدة العجوز بعباءتها السوداء، ونظارتها الداكنة، التي حوّلتها لستار تخفي وراءه عينين أرهقهما البكاء من عقوق ابن كرَّست سنوات حياتها من أجله حتى تقلد أعلى المراتب، فكافأها بطردها من البيت، منتظرة الإذن لها بالمثول أمام القاضي في دعوى التظلم من قرار تمكين ابنها وزوجته من مسكنها.

"باكورة سعدي وأول أحلامي الكبار هو الذي جاء بي إلى هنا".. بهذه الكلمات بدأت "ماجدة" سرد حكايتها خلعت عنها نظارتها كاشفة عن عينين زاخرتين بالأسرار الكبار وعبرات حارّة انهملت بعدما ضاقت بها ذرعا فتركتها حتى أغرقت خديها، راسمة عليهما خطين طويلين، قائلة: "قسى عليّ ابن عمري، وما عهدته قاسيًا ولا عاقًا ولا جافًّا، كنتُ أحنّ الورى عليه، كيف طابت نفسه أن يخطط لطردي من بيتي مع زوجته وهو ابني الوحيدَ رُزقت به بعد خمسٍ عجاف من عدم الإنجاب، خمس سنوات كأنهن الدهر وأنا أمنّي نفسي بمولود يرسم البسمة على وجهي ووجه أبيه، ويجدد في قلبينا الأمل، حملته في صغره ألم يئن الوقت ليحملني هو في كبري، ويكرمني حتى يوارى الثرى جسدي! لم تكن النهاية كما توقعت، بل كانت مكافأة نهاية الخدمة بأن خطط لطردي من بيتي عقب وفاة والده بترتيبات جهنمية، بأن خطط وزوجته بترك شقتهما بعدما رفع صاحب البيت الإيجار عليهما، فبحسن نية استضفتهما في بيتي ولكنهما أساءا الاستضافة، وصدر لهما حكم بتمكينهما من شقتي باعتبارها مسكن الزوجية.

همست الأم في حشرجة صوت: "كيف هانت عليه أمُّه؟ ما أقساه وربي! لولا وازع الإيمان في قلبي لأنهيت حياتي بيدي حتى لا أكون شاهدة على تلك اللحظة".

 

شهقت السيدة الستينية شهقة وكتمت أخرى، ثم أطلقت آهات كأنهنّ نفثات المصدور أو زفرات المحزون وهي تواصل روايتها قائلة: "انقلب حال ابني منذ أن وقع في حب فتاة لم يطمئن قلبي لها يومًا، ولكنها استوت على عرش فؤاده وتمكنت منه أيما تمكن، سقط في حبائل الهوى، وصار متيَّما بها، قرر أن يتزوجها رغم اعتراضي أنا وأبيه، كانت وحدها التي تعنيه أما موافقتنا فلا تعنيه، وأوحى له الحب ساعة الخطر أن يفوز بمعشوقته ولو وقفت الدنيا جمعاء له بالمرصاد، فوضعنا أمام الأمر الواقع وتزوجها بالفعل، مرّت الأيام وتنازل والده عن عنفوانه، كونه الابن الوحيد، ورضينا بالواقع، وتغيرت معاملته معنا بعد زواجه منها، وعلى حين غِرة انطلقت آلة العصيان تحصدني وأبيه حصدًا".

رفعت الأم منديلًا تحوي به عبرات سخينات تترقرق بين جفنيها وعلى خدها الأسيل كالجمر المتقد، ثم عادت ترمق محدثها بانكسار قائلة: "بعد عامين توفي والده، ومكثت في الشقة وحدي، كلّت همتي وخارت قواي، ومن هو من المفترض أن يكون ظهري وسندي وعوني وعضدي بعيد عني، حتى عزلتي استكثرها عليّ، فرشت له وزوجته الأرض وردًا بعدما حضرا للعيش معي وتناسيت قسوته عليّ وإهماله لي، أنفقت عليهما كل ما أملك، غرِفت من بحر اللذَّات ما لذَّ لهما وما طاب، وذات يوم فوجئت بالشرطة تقتحم منزلي لتجبرني على الخروج منه، وابني خائر القوى، نزل عليّ الأمر كالصاعقة، وما زاد من حدة الصدمة سوى نظرات الانتصار المتبادلة بين ابني وزوجته، وهي تسترق منه نظرات لها مغزى، حينها تيقنت أنني وقع في الفخ الذي نصبه لي ابني! ذلك المشهد خلّف في قلبي شرخًا لا يزال رغم مر الأيامِ وكرّ الليالي ينزف وجعًا، آه لو توقف الزمن عند طفولته البريئة الحلوة، لكن هيهات ثم هيهات، كبر وكبرت معه علّتي، وها أنا جئته اليوم بعد بلوغ عامي الستين أجتر الحسرات والخيبات، ولا أملك من لحظات الأمومة سوى حفنة ذكريات".

طفقت "ماجدة" تهز رأسها في أسف بالغ فإذا بالدمعات تنساب من مآقيها فقد صاحت داخلها غريزة الأمومة الصارخة وهي تقول: "عِشت لحظات تمنيت لو أنها كانت كابوسًا وحتمًا سينقضي، قصدت بيت شقيقتي وفي كل ليلة أبيت عندها أُمني نفسي بأن ابني سيجيئني علّه يجبر ما كسره داخلي، مؤمنة بأن حتى الأرض البور ستؤتي أكلها ولو بعد حين، ولكن تجاهله لي ضاعف الوجع، لجأت للقضاء تظلمًا من قرار التمكين الصادر لهما، بعدما ضاقت بي الأرض رغم سعتها ولم أجد سواه، أرجو ألا يردني القاضي خائبة تعيسة كاسفة البال كابني"!، ولما انتهت من بث شكواها مددتُ لها يدي فقامت منهكة كبناء يوشك أن يتداعى.