رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

خارج السطر

أتذكر جيدًا ذلك اليوم الذي تكون لدي فيه نصف جنيه كاملا، فغزوت سور الأزبكية لأقتنص كتابا جديدا يفتح لي نوافذ تضيء عتمات طفولتي. كُنت في العاشرة أو أكبر قليلا عندما كان اسم مصطفى محمود لدي يعني جمالا وفكرا وسحرا. كانت طبعات دار المعارف لكتبه ذات الغلاف الأبيض والوجه الأربعيني الهادئ خاطفة للعين وباعثة للطمأنينة والرضا، ومنها قرأت مسرحيات وروايات وقصص وأطروحات الرجل الفكرية حتى أنني حفظت فقرات كاملة من كتبه «لغز الموت»، و"حوار مع صديقي الملحد" و"المسيخ الدجال". وظل الرجل ساكنا في بيتي، صديقا لي حتى اشتد عودى وتبحرت في المعرفة شرقا وغربا، فنمى لديَ توجه نقدي مضاد لكثير مما يقول، لكنني ظللت ممتنا له على تنوع ابداعاته ووصوله إلى أجيال مغايرة لجيله بسلاسة الكلمة ورشاقة الأسلوب.

أتذكر أيضا ونحن أطفال كيف كُنا في الأسرة نتحلق أمام التليفزيون كل أسبوع لنستمتع للرجل وهو يتحدث عن جديد العلم رابطا إياه بالدين. لقد كان بلا شك أحد علامات حقبة الثمانينات حيث عرفت مصر سكونا إبداعيا، ورخاوة فكرية، وتوسعا كبيرا للتدين الشكلي، وتصاعدا مخيفا للتيارات الدينية. ويُمكن أن أقول الآن بضمير مرتاح إن وجود مصطفى محمود هو والشعراوي ( رغم الفارق بينهما) ربما حمى أجيالا عديدة من المصريين من الإنزلاق في مجاهل السلفية الجهادية بتطرفها المقيت.

هذه الخلفية الشخصية هي ما دفعتني أن أنتبه بشغف لرواية جديدة صدرت بعنوان «اسمي مصطفى محمود» كتبها الباحث الجاد وائل لطفي، في إطار مشروع مهم انشغل به طوال حياته المهنية وهو مشروع قراءة وتحليل وتفكيك ظاهرة السلفية الجديدة في مصر.

وأفضل ما في العمل أنه اتخذ قالبا روائيا مكنه من عرض رؤاه وتحليلاته بإطار روائي يتحدث فيه مصطفى محمود ذاته كما لو كان يقدم اعترافاته، وهو ما ساعده على تقديم آراء صريحة وصادقة دون تحرج مثلما أشار مثلا إلى كراهيته لمحمد حسنين هيكل، ذلك الصحفي الأقل ثقافة منه والذي حاز مكانة عظمى لقربه من السلطة.

يُحلل لنا وائل لطفي أسباب صعود مصطفى محمود، في حقبة السبعينات توازيا مع صعود مشروع الاسلام السياسي، واعجاب السلطة بتيمة الارتباط بالخطاب الديني من خلال شعار دولة العلم والإيمان، ولقب الرئيس المؤمن الذي اقترن باسم السادات.

تكشف الرواية استنادا لمصادر مثبتة، وليس اعتمادا على خيال روائي، أن السادات هو من بادر بالاتصال بمصطفى محمود معبرا عن إعجابه بكتابه «القرآن محاولة لفهم عصري» سنة 1969، وهو ما كان بمثابة توجيه لتحول كامل في كتابات «محمود» لتغادر حلبة الابداع والفلسفة، وتنحصر في مجال الفكر الديني، مع توجه سياسي واضح لدحض وضرب شخصية عبد الناصر وتصويره بكونه خصما للإسلام نفسه، وليس مجرد حاكم مستبد. لكن الدراما الحياتية في الحكاية تتولد عندما يتعرض « محمود» ذاته لهجوم عنيف من داخل التيار الديني ممثل في الخطيب المفوه عبد الحميد كشك، الذي حاز شعبية واسعة بفضل تهكمه على المشاهير. وهكذا ألحق «كشك» بمنظر العلم والإيمان اتهامات وصلت إلى حد العداء للإسلام ظلت تغبش صورته بين العامة حتى نهاية عمره، وهو مشهد معتاد في مجتمعاتنا حيث تنتصر الشعبوية الجاهلة على ثقافة الإصلاح.

يبدو مصطفى محمود رغم أي اختلاف للنخبة المثقفة معه، شخصية استثنائية مثيرة للاهتمام بحيرته الدائمة، وبحثه عن الحقيقة وتأملاته في مغذى الحياة، وسر الموت، وحقيقة الوجود الإنساني. ورغم دخوله في معركة حادة مع ثلة متشددين اتهموه بالمروق من الملة لانكاره الشفاعة، فإنه استطاع التأثير في قطاعات كبيرة من المصريين، وربما كان حائط صد ضد انسحاقهم وراء طوابير السلفية الممولة التي غزت مصر.

وحسنا فعل وائل لطفي أن ذكرنا بسيرة الرجل، ومسيرته، وأهمية ما كتب وطرح حتى لو اختلفنا معه.

والله أعلم

:[email protected]