رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

 

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 258).

في حلقة جديدة مع سيرة خليلِ اللهِ إبراهيم عليه السلام في دعوته إلى الله تعالى، وذلك حين واجهَ بطَرَ بعضِ البشرِ وطُغيانَهم وقد أنعمَ اللهُ عليهم مِن نعمِهِ، وكمْ يرتكبُ الإنسانُ هذا إذا رَأَى نفسَه ذَا غِنًى من مالٍ أو جاهٍ أو عِزْوَةٍ! يقول الله سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6، 7).

يواجهُ إبراهيمُ عليه السلامُ رجلًا آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ، فلم يشكرْ ربَّه، بل أطغاهُ شعورُه بالْمُلْكِ فبطِرَ وتكبَّرَ، وهذا النوعُ من الناسِ لا تكونُ دعوتُهم إلى سبيلِ الحقِّ مُيسّرةً سهلةً، وإنَّما فيها عُسرٌ بقَدرِ حَيْدَتِهم عن الحقّ، فإذا بهذا الملكِ يجادلُ إبراهيمَ عليه السلام في ربِّه؛ إذ إنَّه قد أعلنَ ضلالَ ما هُمْ فيه، ودعاهم إلى نَبْذِ ضَلالِهم وعبادَةِ اللهِ وحدَه، فجادلَهُ هذا الملكُ في ربِّه، فاستدلَّ إبراهيمُ عليه السلام ببرهانٍ لا يُمارِي فيه أحدٌ، فذكَرَ دلالةً من أظهرَ الدلالاتِ على وجودِ الخالقِ ووَحدانيتِهِ واستحقاقِه العبادَةَ، فقال {إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، وهل بعدَ هذا مِن دليلٍ؟! مَنْ مِنَ الخلْقِ بوسعِه أنْ يدَّعيَ أنَّ الإحياءَ والإماتَةَ بيدِه؟ مَنْ الذي يستطيعُ أن يدّعيَ أنّه يُحيى نُطفةً فتكونُ بشَرًا سويًّا ويمنعُ أخرى الحياةَ؟! ولو كان الأمرُ بِيَدِ البشَرِ لكان لهم مِن كلِّ نطفةٍ ولَدٌ، ثم مَنْ هذا الذي بيدهِ تعميرُ الكبيرِ رغمَ هرمِه، وإماتةُ الصغيرِ وهو في مُقتبَل عُمُرِه؟! وكم مِنْ مريضٍ قد يئِسَ مِنْ حياته الناسُ ويعيشُ دهرًا طويلًا! وكم مِنْ صحيحٍ يموتُ دونَ علّةٍ وقد أمَّلَ الناسُ في طولِ حياتِه! وذكر إبراهيمُ لِمُجادِلِه الإحياءَ قبلَ الإماتةِ {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}؛ إذ إنَّ الحياةَ باديةٌ أمامَهم نشأتُها وأطوارُها، فهي أَبْينُ وأَجْلَى، ومِنْ شأنِ الدليلِ أنْ يكونَ في غايةِ الوضوحِ والقوةِ -كما قالَ العلماءُ- وهكذا ينبغي أنْ يكونَ دليلُ الداعيةِ في هَدْيه، والعالمِ في مجالِه، والأستاذِ في دَرْسِه، بل ينبغي أن يُبنَى كلُّ حوارٍ ونقاشٍ وجدالٍ على مثلِ هذا الوضوحِ والقوةِ للوصولِ إلى الخير.

ولكنَّ الملكَ المجادِلَ كَابَرَ وجاءَ بمغالطةٍ فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، وذلك بأنْ يعفوَ عن محكومٍ عليه بالقَتْلِ فيكونَ قد أحياه، ويقتلَ بريئًا فيكونَ قد أماتَه.

ومن هذا علِمَ الخليلُ عليه السلام أنَّ خصمَهُ مُكابرٌ يُغالطُ في كلامِهِ، فأعرضَ عن بيانِ هذه المغالطة، إذْ الِانسياق وراءَها لن يُجديَ سوى البُعدِ عن الهدفِ المرادِ، ولذا جاءَه بحجةٍ أبينَ لا يستطيعُ أن يُغالطَ فيها {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.

أهلُ الحقِّ بُغيتُهمُ الوصولُ إليه من أقربِ طريقٍ، ولا تُبْعدُهم عن طريقِهم المستقيمِ بُنيَّاتُ الطَّريقِ (أي: الطُّرُق التي تتشعبُ من الطريقِ الرئيس)، وهكذا ينبغي ألَّا يَنساقَ المرءُ وراءَ ما يشغلُه عن هدفه من مغالطاتِ المغالطين وتُرَّهاتِ المجادلين.

ثم إنَّ في هذا بيانًا لمنهجٍ يُوقظُ العقلَ مِن غفلته، ويجعلُه منتبهًا للواقعِ مِن حولِه، غيرَ واقفٍ عند حُدودِهِ الظاهرة، وإنما ينفذُ منها إلى ما وراءَها، إنَّ عدمَ إعمالِ العقلِ يُؤدي إلى هَلَكةِ الإنسانِ ليس في دنياهُ فقط، بل في أُخراه أيضًا، وقد ذكَرَ الله لنا أنَّ الكافرينَ يتحسرون يومَ القيامة على أنَّهم لم يَسمعوا لرسولِهم ولم يُعملوا عقولَهم فيما جاءَهم به {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك: 10).

وهذا تأملٌ للإفادةِ من المناهج التطبيقةِ العَمَليَّة في قَصَصِ سيدِنا إبراهيم أبي الأنبياء الذي جاءَ مِن نسلِه أنبياء ورُسُل، أرسلوا كلُّهم بالدعوةِ لعبادةِ الواحد، وكان لكلٍّ منهم شريعةٌ سماويَّةٌ تناسبُ قومَه وزمانَه، ثم جاءَ سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مبعوثًا للناس كافّة ورحمةً للعالمين.

 

--

رئيس لجنة الشئون الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ

ونائب رئيس جامعة الأزهر السابق