رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

تجلية (٦)

تعد قيمة العمل من أعظم القيم التى رسَّخها الإسلام فى نفوس أتباعه، حيث إن جوهرَه هو القول والعمل، وكثيرة هى الآيات التى تبين هذه الحقيقة وتؤكد رفعة مكانة العمل، حيث قرنت العمل بالإيمان، ومن ذلك قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {آل عمران: 57}، وقوله تعالى مبينا أن أفضل مراتب المكلفين هم أصحاب العمل الصالح، ومؤكدا حسن جزائهم فى الدنيا والآخرة: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} {البينة: 7}.

فالعمل فى الإسلام هو نصف الدين، وهو شرف المؤمن، وسببُ نجاحه وفلاحه فى الدارين، وكفى ذلك دلالة على جلالة موقع العمل فى الإسلام.

والعمل فى الإسلام مفهوم متكامل وشامل، فلا يقتصر على العبادات كالصلاة والزكاة والصوم وسائر الفرائض فقط، بل إنه يتسع مفهومه بحيث تكون كل أفعال المكلف عبادة، سواء كانت تلك الفرائض والأركان الأساسية -وهى أصل الأعمال الصالحة- أو كانت أعمالا فى مجالات الحياة المختلفة كالتجارة، والصناعة، والزراعة، والوظائف فى القطاعات العامة والخاصة، ومعلوم أن العمل والتعمير هو من أجل المقاصد التى خلق الله المكلفين من أجلها قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاستعمرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إليه إن رَبِّى قَرِيبٌ مُجِيبٌ} {هود: 61} أى كلفكم بعمارتها، لكن الشرط فى قبول كل هذه الأعمال هو توفر الإخلاص والإحسان فيها.

ويدل على ذلك أيضاً ما رُوى عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أإن الله تَعَالَى يحب إذا عمل أحدكُم عملا أن يتقنه) أخرجه البيهقى وأبو يعلى وابن عساكر وغيرهم عن عائشة رضى الله عنها. وفى رواية أخرى: (إنّ الله تَعَالَى يُحِبُّ منَ العامِلِ إذا عمل أن يُحسِنَ).

وقد علق الإمام المحدث زين الدين المـُناوى المصرى القاهرى، المتوفى 1031 هـ فى كتابه الماتع «فيض القدير بشرح الجامع الصغير» على الرواية الأولى لهذا الحديث فقال: (إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم) أيها المؤمنون (عملا أن يتقنه) أى يُحكِمَه كما جاء مصرحا به فى رواية العسكرى، فعلى الصانع الذى استعمله الله فى الصور والآلات والعُدَد مثلا أن يعمل بما علمه الله عمل إتقان وإحسان بقصد نفع خلق الله الذى استعمله فى ذلك، ولا يعمل على نية أنه إن لم يعمل ضاع، ولا على مقدار الأجرة، بل على حسب إتقان ما تقتضيه الصنعة، كما ذُكر أن صانعًا عمِل عملا تجاوز فيه ودفعه لصاحبه فلم ينم ليلته كراهة أن يظهرَ من عمله عملا غير متقن، فشرع فى عملٍ بدله حتى أتقن ما تعطيه الصنعة، ثم غدا به لصاحبه فأخذ الأول وأعطاه الثانى فشكره، فقال: لم أعمل لأجلك بل قضاءً لحق الصنعة كراهة أن يظهر من عملى عمل غير متقن.

وعن التجارة وتحرى الصدق والأمانة فيها فقد أورد المـُناوى أيضاً الحديث الذى أخرجه الترمذى بسنده عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه مرفوعا: (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ) وقال معلقا على هذا الحديث الشريف: (التاجر الصدوق الأمين) يحشر يوم القيامة (مع النبيين والصديقين والشهداء) قال الحكيم -يعنى الحكيم الترمذي-: إنما لحق بدرجتهم لأنه احتظى بقلبه من النبوة والصديقية والشهادة، فالنبوة انكشاف الغطاء، والصديقية استواء سريرة القلب بعلانية الأركان، والشهادة احتساب المرء بنفسه على الله فيكون عنده فى حد الأمانة فى جميع ما وضع عنده، وقال الطيبي: قوله (مع النبيين) بعد قوله (التاجر الصدوق) حكم مرتب على الوصف المناسب من قوله {ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم} وذلك أن اسم الإشارة يُشعر بأن ما بعده جدير بما قبله لاتصافه بإطاعة الله وإنما ناسب الوصف الحكم لأن الصدوق بناء مبالغة من الصدق كالصديق، وإنما يستحقه التاجر إذا أكثر تعاطيه الصدق لأن الأمناء ليسوا غير أمناء الله على عباده، فلا غرو لمن اتصف بهذين الوصفين أن ينخرط فى زمرتهم.

كما أورد حفاظُ السنة وشراحُها أحاديث عديدة فى فضل الزراعة، والثواب العظيم لمن يتقن عمله فيها، فأورد الإمام بدر الدين العينى المصرى المتوفى سنة 855 هـ فى كتابه العظيم «عمدة القارى بشرح صحيح البخاري» عدةَ أحاديث فى فضل الزراعة والمزارع، حيث عقد الإمام البخارى بابا بعنوان (بابُ فَضْلِ الزَّرْعِ والْغِرْسِ إذا أُكِلَ مِنه) وذكر حديثا عنْ أنَسٍ رَضِى الله تَعَالَى عنهُ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا مِنْ مُسلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أو يَزْرَعُ زَرْعًا فَيأكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أو إنسان أو بَهِيمَةٌ إلَّا كانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ)

وأورد الإمام بدر الدين أيضاً رواية لمسلم فى هذا الصدد بسنده عن جابر رضى الله عنهما مرفوعا: (مَا من مُسلم يغْرس غرسا إلاَّ كَانَ مَا أكل مِنْهُ لَهُ صَدَقَة، وَمَا سرق مِنْهُ لَهُ صَدَقَة، وَمَا أكل السَّبع فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وَمَا أكلت الطير فَهُوَ لَهُ صَدَقَة، وَلَا يرزؤه أحد إلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة).

ثم ذكر بعض ما يستفاد من هذا الحديث فذكر من ذلك: فضل الْغَرْس وَالزَّرْع، وأن أفضل مجالات الأعمال يخْتَلف الْحَال فِيها باخْتلَاف حَاجَة النَّاس، فَحَيْثُ كَانَ النَّاس مُحْتَاجين إلى الأقوات أكثر، كَانَت الزِّرَاعَة أفضل، للتوسعة على النَّاس، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إلى المتجر لانْقِطَاع الطّرق كَانَت التِّجَارَة أفضل، وَحَيْثُ كَانُوا مُحْتَاجين إلى الصَّنَائِع أَشد، كَانَت الصَّنْعَة أفضل، وَهَذَا حسن.

كما بين النووى أن الأجر يستمر للمزارع ما دام غرسه مستمرا منتجا، فقال: إن أجر فَاعل ذَلِك مُسْتَمر مَا دَامَ الْغِرَاس وَالزَّرْع وَمَا يُولد مِنْهُ إلى يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: إن الْغَرْس وَالزَّرْع واتخاذ الصَّنَائِع مُبَاح وَغير قَادِح فِى الزّهْد، وَقد فعله كثير من الصَّحَابَة، رَضِى الله تَعَالَى عَنْهُم.

وهذا كله يؤكد ما أولاه أسلافنا من اهتمامٍ بالغ للأعمال الصالحة التى فيها إعمارٌ للأرض وبناء للأوطان، وأنهم لم يقتصروا على جانب من العمل دون الآخر، فالإسلام دين العمل والإنتاج ولا يُقر التواكلَ أو الكسل.

وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم وهو قدوة المسلمين جميعا بنص القرآن يعمل ويخطط، ويتدبر الأمور، ويعد لكل شيء عدته، ويأخذ بالأسباب ثم يتوكل على اللَّه، والتوكل على اللَّه لا يعنى ترك العمل وعدم الأخذ بالأسباب، وإنما هو خطوة تالية بعد إعداد كل شيء، ومن شأن هذا التوكل أن يذكر الإنسان باللَّه ويزوده بطاقة روحية تجعله أكثر قدرة على التغلب على الصعاب ومواجهة المشكلات بعزيمة لا تلين، فالتوكل على اللَّه إذًا قوة إيجابية دافعة وليست سلبية أو تواكلًا.

التواكل يعنى عدم الأخذ بالأسباب، وعدم العمل اعتمادًا على أن اللَّه سيفعل كل شيء حسبما يريد، وهذا أمر مرفوض فى الإسلام، فاللَّه تعالى لا يعين الكسول الذى لا يساعد نفسه ويتواكل على الغير مع قدرته على العمل.

وقد طرد عمر بن الخطاب، رضى اللَّه عنه، بعض المتواكلين المنقطعين للعبادة فى المسجد اعتمادًا على أن غيرهم ينفق عليهم ويتولى أمرهم، وقال كلمته المشهورة: «إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة» واستشهد بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذى يقول: «لو أنكم تتوكلون على اللَّه حق توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِمَاصًا وتروح بِطانًا» أى يجب على الإنسان أن يعمل ويعتبر بالطير التى تخرج فى الصباح سعيًا ورَاء قوتها وبطونها خاوية، وتعود آخر اليوم وقد امتلأت بطونها.

نحن الآن نعيش فى عصر يموج بكثير من الفتن والأوبئة والمستجدات والمتغيرات على مستوى العالم، الأمر الذى يتطلب أن يبذل كل مصرى جهوده بكل ما يستطيع فى العلم والعمل المتقن، لأنهما من وسائل الحفاظ على البقاء والعيش «حياةً كريمة» يستحقها الشعب المصرى العظيم.

--

رئيس اللجنة الدينية والأوقاف بمجلس الشيوخ

نائب رئيس جامعة الأزهر السابق