رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

تجليات ثقافية (3)

 

 

 

 

 

 

لا يزال حديثنا موصولاً عن القاهرة وتاريخها العلمى والثقافى، الذى أثرى المكتبة الإسلامية والمعرفة الإنسانية.

حديثنا اليوم عن عالم من كبار علمائها، الذين ملأوا الدنيا علماً ومعرفة لا سيما علوم السنة المطهرة، إنه الحافظ الجليل، أمير المؤمنين فى الحديث، صاحب كتاب «فتح البارى بشرح صحيح البخارى» والمؤلفات الكثيرة التى سارت بها الركبان، وكتب لها القبول التام.

إنه الإمام الحافظ شهاب الدين أبوالفضل أحمد بن على بن محمد بن العسقلانى المصرى الكنانى، المعروف بابن حجر وهو لقب لبعض أجداده.

ولد فى مصر، سنة 773هـ، على شاطئ النيل بمصر القديمة، وتوفى أبوه وأمه وهو صغير، ولم يمنعه يتمه من أن يكون سباقاً فى طلب المعالى، حتى فاق جميع أقرانه.

ومن أهم العوامل التى أثمرت هذا النموذج هو حرص المجتمع المصرى على التعليم آنذاك، الذى لا يزال قائماً فى الكثير من البيوت المصرية، فالحضارة لا توجد أو تستمر إلا مع العلم، وتذكر لنا كتب التواريخ أن والد الحافظ ابن حجر لما شعر بدنو أجله أوصى بولده إلى أحد أصدقائه من كبار التجار وهو زكى الدين محمد بن على الخروبى، الذى قام على أمر ولد صديقه خير قيام، وكذلك أسند وصيته للشيخ شمس الدين ابن القطان للعلاقة القوية التى كانت تجمع بينهما.

وهذا يعكس أيضاً قوة الترابط الأخوى والوفاء الذى جعل وفاة الأب غير مؤثرة فى التكوين العلمى للحافظ رحمه الله تعالى، وهذا يدعو إلى مزيد التمسك بقيم الترابط الأسرى وصلة الرحم وصحبة أهل الخير.

وفى كنف هذه الرعاية الصادقة والبيئة العلمية النشطة ترعرع ابن حجر، وأقبل على العلم بهمة تطاول قمم الجبال، فحفظ القرآن الكريم وهو ابن تسع سنوات، وحفظ كثيراً من المتون العلمية فى سن مبكرة، كألفية ابن مالك والحاوى ومختصر ابن الحاجب والتنبيه وغيرها.

ومع همته العالية كان يتمتع بالذكاء النادر والحفظ الباهر الذى شهد له به أشياخه من كبار أئمة عصره، كإمام المعقول فى زمانه الإمام عز الدين ابن جماعة، وإمام المنقول فى زمانه الحافظ زين الدين العراقى وسابق عصره فى مذهب الشافعية الإمام البلقينى، وغيرهم من كبار شيوخه رحمهم الله جميعاً.

وبعد رحلاته الطويلة فى طلب العلم داخل القطر المصرى وخارجه، استقر بعد ما أذن له بالإفتاء والتدريس، ليفيد طلاب العلم والمعرفة لا سيما علوم الحديث الشريف، الذى صرف أكثر همته وإنتاجه العلمى إليه مطالعة وتأليفاً وتدريساً.

ومن أشهر مؤلفاته: الإصابة فى تمييز الصحابة، لسان الميزان، ونزهة النظر بشرح نخبة الفكر، وبلوغ المرام، والدرر الكامنة فى أعيان المائة الثامنة.

ولكن أشهر مؤلفاته على الإطلاق هو كتابه العظيم فتح البارى الذى شرح فيه صحيح الإمام البخارى، رحمه الله، والذى استغرق فى تصنيفه وتحريره أكثر من خمس وعشرين عاماً، قضاها مع كتاب الإمام البخارى شرحاً ودراسة دقيقة لأسانيده ومتونه، ومناقشة من سبقوه من الشراح ونقاد الحديث، فجاء شرحاً منقطع النظير فى بابه، حتى قال فيه الإمام ابن البرهان الحلبى: «وشرح البخارى شرحاً عظيماً، لم يشرح «البخارى» مثله. وتلقاه الناس بالقبول، وسارعوا إلى كتابته وقراءته عليه، وطلبه ملوك الآفاق إلى بلادهم».  وقال الإمام ابن الشحنة: «وألف فى فنون الحديث كتباً عجيبة، أعظمها شرح البخارى، وعندى أنه لم يشرح «البخارى» أحد مثله، فإنه أتى فيه بالعجائب والغرائب، وأوضحه غاية الإيضاح، وأجاب عن غالب الاعتراضات، ووجه كثيراً مما عجز غيره عن توجيهه. وبلغنى عنه أنه قال: إن أحسن مؤلفاتى، «الشرح»، و«تغليق التعليق»، و«اللسان».

فكانت القاهرة مقصد الطلاب والعلماء من كل أرجاء الدنيا لحضور مجالس الحافظ ابن حجر وتحصيل نسخ من فتحه العظيم الذى فتح الله به عليه.

ومن الآثار التى أوردها الإمام البخارى فى صحيحه وتناولها الحافظ بالشرح قول سيدنا عمار بن ياسر رضى الله عنه: «ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار»

وهذه المقولة التى قالها سيدنا عمار توضح أثر التوجيه النبوى فى نفوس الصحابة فى نظرتهم للنفس وللخلق وللمادة، وهو أمر يجب أن يتحلى به كل مسلم فى كل زمان ومكان.

فالانتصاف من النفس من خصائص الصادقين والمفلحين، وهو ما نسميه اليوم بالنقد الذاتى، وبذل التحية والترحاب لجميع الناس، وعدم الضن والبخل بما تستطيع أن تقدمه للآخرين، والأمر لا يقتصر على المال فقط فقد تنقذ إنساناً من الهلاك بنصيحة تسديها إليه، وقد ترفع عنه المشقة بتوجيه أو تنبيه، والنبى (صلى الله عليه وسلم) كان يعطى عطاء من لا يخشى الفقر، فإذا جاءه سائل أكرمه، وإن لم يوجد المال رده بميسور من القول.

ويقول الحافظ ابن حجر فى كتابه العظيم فتح البارى معلقاً على قول عمار رضى الله عنه:

والعالـم بفتح اللام والمراد به هنا جميع الناس، والإقتار القلة وقيل الافتقار، قال أبوالزناد بن سراج وغيره إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها، لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه ولم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه، وهذا يجمع أركان الإيمان، وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق، والتواضع، وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب، والإنفاق من الإقتار يتضمن غاية الكرم، لأنه إذا أنفق مع الاحتياج كان مع التوسع أكثر إنفاقاً، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبة ومندوبة أو على الضيف والزائر وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد فى الدنيا وقصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة.

وقد ظل الحافظ مقصد الطلاب مفيداً لهم بمجالسه ومصنفاته، حتى لقى ربه عام 852 هـ ودفن بتربة وصيه أزكى الدين الخروبى بموضع قريب من مسجد الإمام الشافعى رضى الله عنه.

فرحم الله الحافظ ابن حجر العسقلانى وجزاه عن وطنه وأمته ودينه خير الجزاء.