رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

تجليات ثقافية (2)

 

 

 

من أشهر المدارس التى تميزت بها القاهرةُ فى العصر الأيوبى «دار الحديث الكاملية» التى بناها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك العادل أبو بكر بن أيوب فى سنة 621هـ 1224م، بمنطقة بين القصرين الواقعة فى شارع المعز لدين الله الفاطمي.

وكان الملك الكامل حاكمًا لمصر لسنوات كثيرة، وكان له اعتناء كبير بالعلوم الشرعية، لا سيما بعلوم الحديث الشريف روايةً وتَفَقُّهًا، وفى السنة السادسة من ولايته أنشأ «دار الحديث الكاملية»، ووقفها على المعتنين بالحديث الشريف وعلومه، ومن بعدهم على المشتغلين بالفقه على مذهب الإمام الشافعى رضى الله عنه.

وكان أولَ من ولى مشيخة الحديث فى «المدرسة الكاملية» هو الإمام الحافظ أبو الخطَّاب ابن دِحْيَة السبتى (ت 633 هـ)، كما وليها ولده شرف الدين أبو الطاهر ابن دِحْيَة (ت 670 هـ)، ثم وليها الإمام قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد المصرى (ت 686هـ) وغيرهم رحمهم الله جميعا.

وكانت هذه الدار زاخرة بالعلم والطلاب ومجالس الإقراء للحديث وشرح فنونه، ومجالس العلوم الأخرى، وكانت مركزًا جاذبًا لطلاب العلم من شتى البقاع.

وكان من أشهر الشخصيات التى وليت مشيخة الحديث بها، وكان لهم الأثر الكبير فى إثراء الحياة العلمية والفكرية الإمام الحافظ زكى الدين أبو محمد عبد العظيم بن أبى محمد عبد القوى بن عبد الله بن سلامة المنذرى المصرى الشافعي، المولود سنة 581 هـ والمتوفى سنة 656 هـ صاحب الكتاب الشهير «الترغيب والترهيب» والمؤلفات الكثيرة النافعة.

ولد رحمه الله فى منطقة الفسطاط بمصر، واعتنى به أبوه منذ صغره فأحضره فى مجالس العلماء فسمع الحديث وهو ابن عشر سنوات، وأورثه ذلك تعلقا قويا بالحديث الشريف وعلومه، وهذه من ثمار الاعتناء المبكر بمواهب الأطفال، ومع أن أباه قد توفى بعده بمدة يسيرة، إلا أن جذوة حبه للعلم لم تنطفئ بل كانت تزداد يوما بعد يوم.

فحرص على سماع الحديث من شيوخ مصر فسمع بها من أبى عبد الله محمد بن حَمْدٍ الأنصاري، والإمام الحافظ عبد الغنى بن عبد الواحد الحنبلي، ورحل إلى الإسكندرية مرات للقاء كبار علمائها ومحدثيها، كما رحل إلى المنصورة، وبلبيس، وسمنود، ودمياط، وغيرها من مدن الشمال المصري، ثم يمم وجهه شطر الصعيد فرحل إلى قوص وكانت وقتها من أهم المدن العلمية فى مصر، وقنا، وديروط، وغيرها.

ولم يكتف بالرحلة للقاء شيوخ مصر والأخذ عنهم، فرحل كذلك إلى الحجاز، وبيت المقدس، وغزة، والشام، وحران، وغيرها من الأقطار كل ذلك وهو شديد الحرص على التلقى والحفظ والفهم، والاعتناء بالعلوم الأخرى كاللغة والفقه والقراءات والتصوف، وهذا الحرص والاجتهاد يفسر لنا تلك المرتبة العالية التى تبوأها الحافظ المنذرى فى العلوم بصفة عامة وعلوم الحديث الشريف بصفة خاصة.

ولما ألقى عصى الترحال وعاد إلى أرض الكنانة تولى عدة مناصب فتولى التدريس بالجامع الظافرى والإمامة بالمدرسة الصالحية، وكان أشهر وأهم هذه المناصب توليه لمشيخة دار الحديث الكاملية، فكان ثالثَ شيخٍ لهذه الدار العريقة بعد أبى الخطاب ابن دحية وأخيه أبى عمرو عثمان بن الحسن، وظل شيخا للدار مدة عشرين سنة تقريبا، متفرغا للتدريس والتأليف والإفتاء، إلى آخر حياته، وفيها مات رحمه الله تعالى.

وكانت مجالسه فيها منقطعة النظير، مما زاد من السمعة العلمية لهذه المدرسة، فوفد الناس إليها من كل حدب وصوب، وصارت مَعلمًا محوريا من معالم القاهرة العلمية.

وفى وصف مجلسه فى الحديث وبيان قيمته العلمية يقول الإمام الصوفى الشهير أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: (قيل لي: ما على وجه الأرض مجلس فى الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكى الدين عبد العظيم المنذرى).

لذلك تتلمذ عليه رجالٌ صاروا أئمة العصر من بعده، منهم: الإمام المجدد ابن دقيق العيد، والإمام ابن القصار الدمياطي، والإمام الحافظ شرف الدين أبو الحسين اليونينى وغيرهم كثير ممن ملأوا الدنيا علما ومعرفة.

وقد صنف لنا الإمام المنذرى مصنفات كثيرة سارت بها الركبان، وأثرت الحياة الثقافية والإسلامية إلى يومنا هذا منها: كتاب (التكملة لوَفَيات النقلة) فى التاريخ، وكتاب (مختصر صحيح مسلم) وكتاب (مختصر سنن أبى داود) فى الحديث، وكتاب (شرح التنبيه) فى الفقه، وغير ذلك من المؤلفات النافعة.

ولعل أشهر كتاب عُرِف به الإمام المنذرى عند الخاصة والعامة هو كتابه الماتع «الترغيب والترهيب» الذى ألفه استجابة لأحد طلاب العلم الذى وصفه بأنه من «أُولى الهمم العالية ممن اتصف بالزهد فى الدنيا والإقبال على الله عز وجل» وهو كتاب فريد فى بابه، ماتع فى أسلوبه، متوازن فى مادته، أورد فيه أحاديث نبوية شريفة لرفع الهمم والحث على كثير من وجوه الخير، وفى المقابل أورد الأحاديث التى تنهى عن فعل ما لا يرضى الله سبحانه وتعالى. وهو كتاب قائم على المحافظة على التوازن والاستقامة، فالترغيب والترهيب يقتضى أن يكون المؤمن دائم الاستحضار للخوف والرجاء لا يغلب أحدهما على الآخر، مصداقا لقوله تعالى مادحًا عباده المتقين: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا» (الأنبياء: 90)

ومما جاء فى هذا الكتاب -على سبيل المثال- من الترغيب فى الاكتساب بالبيع وغيره ما أورده المنذرى عَن الْمِقْدَام بن معد يكرب رَضِى الله عَنهُ عَن النَّبِى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مَا أكل أحدٌ طَعَامًا قطّ خيرًا من أَن يَأْكُل من عمل يَده وَإِن نَبِى الله دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَأْكُل من عمل يَده.» رواه البخارى وغيره.

ومما جاء فى الترهيب عن المسألة ما أورده عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله: «لِأَن يحتطبَ أحدُكم حُزمةً على ظهره خيرٌ له من أن يسألَ أحدًا فيعطيَه، أو يمنعَه» (رواه مالك والبخارى ومسلم والترمذى والنسائي.)

فهذان الحديثان الشريفان يعطيان صورة متكاملة عن مفهوم الكسب والعمل والاعتماد على النفس، فالأنبياء كانوا يأكلون من عمل أيديهم، وفى هذا إرشاد عملى واضح إلى وجوب اعتمادنا أفرادًا وشعوبًا على أنفسنا من خلال تعظيم قيمة العمل، وتطوير الذات وزيادة الإنتاج، فهذا هو خير الكسب عند الله تعالى، مع الترهيب من التكاسل والاعتماد على الغير واستصغار العمل، فهو مما يعود بالسلب والضعف على الفرد والمجتمع.

ومما أورده أيضًا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى يحرم الغش فى البيع والشراء: «لا يحلُّ لأحدٍ يبيعُ شيئًا إلاّ بيّن ما فيه، ولا يحلُّ لمن عَلِم ذلك إلاّ بيّنه.»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من غَشّنا فليس منَّا.»

وهكذا يسير الإمام المنذرى وفق هذا المنهج المتوازن فى كل الموضوعات التى يوردها.

رحم الله الإمام المنذرى وجزاه عما أثرى به المكتبه العربية والإسلامية خير الجزاء. وهذه هى القاهرة تبقى دائمًا زاخرة بالعلم والثقافة. وإلى لقاء مع مظهر ثقافى آخر حوته القاهرة.