عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

تحدثنا فى مقالنا السابق عن دلالات قتل الأب فى الثقافة الإنسانية، وفى هذا المقال نؤكد أن هذه الدلالة معنوية ورمزية ترتبط بمقولة التمرد والتى نجد لها صورًا كثيرة فى تاريخ الفكر البشرى فعلى المستوى الأسطوري

نجد بروميثيوس الذى اقتبس النار من سماء (زيوس) ومنحها للإنسان، حلت عليه لعنات زيوس وعقابه إذ ربطه بصخرة وسلط عليه نسرًا لينهش كبده، وكلما انتهى النسر من مهمته نما له كبد جديد... وهكذا.

إنَّ ثورة بروميثيوس هى ثورة الإنسان، وثورة العقل الإنسانى، وثورة العلم؛ لأنَّ النار ترمز إلى العلم والنور والتطهير والتقدم والاستنارة؛ ولذلك توصف كل ثورة، ويوصف كل تقدم بأنَّه بروميثى.

وفى الديانات الإبراهيمية يُمَثِّلُ إبليس أول صورة من صور التمرد، وهذا ما يذكره الحلاج فى كتابه (الطواسين)، ويذكره من بعده ألبير كامى فى كتابه (المتمرد)، بل ويمكن لنا أن نعد آدم متمردًا؛ لأنَّه وفقًا للعهد القديم أكل من الشجرة المحرمة، شجرة المعرفة؛ ليكتسب الحكمة والحرية أو كليهما معًا، وكان على وشك أن يأكل من شجرة الحياة ليشارك الرب الألوهية لولا أن طرده الإله من جنته ليسكن هو وحواء الأرض.

إنَّ التمرد طبقًا لألبير كامى هو تمرد ميتافيزيقى على الأب الكونى، على الإله، وهو تمرد لا يعنى نفى الإله أو قتله على طريقة نيتشه، ولكنَّه يعنى الطعن فى مشروعية الدور الذى يقوم به الإله من أجل خلاص الإنسان من العذاب ومن الظلم، وهذا ما يناقشه دوستويفسكى فى رائعته (الجريمة والعقاب) على لسان (إيفان كارامازوف) الابن المتمرد الذى يمثل القاتل الحقيقى للأب؛ لأنَّه صاحب الفكرة التى اعتنقها (سميردياكوف) القاتل الحقيقى الذى اعتنق مقولة إيفان «أنَّ كل شيء مباح». إنَّ التمرد بهذا المعنى ربما يكون محدودًا، والتمرد كما أفهمه هو تفكيك سلطة الأب من خلال نقل مركزية السلطة من خطاب الأب إلى خطاب الأبناء، وبهذه العملية لن يعد الأب مستأثرًا وحده بالسلطة والمعرفة والإرادة، وإنَّما يتشارك معه الأبناء.

إنَّ التمرد على الأب هو الخطوة الأولى فى التحرر، لكن لا بد أنْ نستكمل هذا الطريق بخطوات أخرى أهمها أن يكون لدينا المقدرة على احتمال عبء الحرية؛ لأنَّ القليل من البشر يستطيعون تحمل مسئولية وهم أن يكونوا أحرارًا، فالتاريخ السياسى للإنسان ليس هو تاريخ اللجوء للحرية، لكنه تاريخ الهروب من الحرية، إنَّ الشعوب والجماهير فى كل مكان تبحث عن الأب، عن المخلص الذى تمنحه حريتها؛ ليكون مسئولًا عنها وعن حريتها، إنَّها لعبة العبودية المختارة، لعبة يمارسها العبيد وهم راضون، ويتقبلها السادة وهم راضون أيضًا. ولذلك فإنَّ التاريخ السياسى للثورات هو بالأحرى تاريخ فشلها معظم الثورات تفشل؛ لأنَّ الثورات يصنعها الشرفاء والأذكياء، ويجنى ثمارها السفهاء والأغبياء. لقد استطاعت الجماهير العربية أن تقتل عددًا لا يستهان به من الآباء السياسيين: صدام حسين، وزين العابدين بن على، وحسنى مبارك، والقذافى، ومحمد مرسى، ولكنها لم تستطع أن تحرر نفسها داخليًّا من تلك السلطة الأبوية، لماذا؟!

لأنَّ بنية المجتمعات العربية بنية ذكورية هيراركية أو بطريركية أصولية دينية فى أعماقها؛ ولذلك سرعان ما تهرب من الحرية لتبحث لها عن أب جديد يكون على مقاس أحلامها الماضوية ونرجستها المريضة، أب يرضى مشاعرها الماسوشية التى لا تقنع إلَّا بالحاكم الذكر، وهى إحدى الصفات التى يشترطها الفقهاء فيمن يكون خليفة للمسلمين. إن التحرر من سلطة الأب بكل أطيافها السياسية والدينية والثقافية لا يمكن أن يتحقق فى ثقافة ما زالت تعبد الأسلاف، وتقدس الماضى، وتخاف من التفكير، وتكفر الحداثة، وتحقر المرأة، وتقوم على الحفظ والتلقين والسلطة المطلقة للنص. وتجعل معيارها الأوحد: السوبرمان الجنسى أو الرجل الفحل المنتشى بذكورته، والمشغول حتى الجنون بكل ما يخدم قضيته الجنسية.

إنَّ هذا الرجل العربى المهزوم ثقافيًّا وحضاريًّا أمام الآخر الغربى، لا يجد عزاءً لإحساسه المرعب بالدونية والانسحاق سوى الانكفاء على هويته المنجرحة والتباهى بفحولته أمام المرأة المقهورة؛ وبذلك فهو يكاد يوحد بين أزمته الجنسية وقضيته السياسية!