رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

 

 

فى أبو ظبى كانت المدارس الثانوية هى آخر المراحل التعليمية وأعلاها، فلم تكن هناك جامعات فى عام 1975، وكانت الرمال تغطى معظم امارة أبوظبى لكن حركة البناء كانت قائمة على قدم وساق، فكانت الأرض تنشق عن ناطحات سحاب.. وأحياء جديدة كل شهر فقد بدأت الامارات حيث انتهى الاخرون، أما أبوظبى نفسها فكانت مكونة من أربعة شوارع هى إليكترا والكورنيش وحمدان ورابع لا أتذكر اسمه.. ربما ابن خليفة وهناك تولى السعدنى ادارة تحرير جريدة اسمها الفجر، كان الناس يسمعون بها دون أن يقرأوها لتدنى أوضاعها الصحفية، فكانت أشبه بمنشور يتم طبعه وتوزيعه فى الأسواق وسرعان ما تعود نفس الاعداد المطبوعة الى أصحابها دون نقصان أو زيادة، فيتم التخلص منها بعد ذلك.. خلال أربعة أعداد تولى فيها السعدنى منصب مدير التحرير أصبحت الفجر هى حديث الشارع فى دولة الامارات كلها.. وللمرة الأولى فى تاريخ الامارات يظهر فى الشوارع باعة للجرائد، وتصدرت الفجر توزيع جميع الصحف الصادرة فى الدولة، ولم يلجأ السعدنى الى صحفيين محترفين من خارج الامارات لكنه استعان بعدد من كتاب الفجر القدامى، ومنهم شاب كان يعمل فى الفجر ويكتب باسم مستعار أبو هانى، وهو شاب مصرى يعمل فى الجمارك اسمه هندى غيث يقول عنه السعدنى انه نزل من بطن أمه لكى يعمل صحفياً، وكان هندى يكتب بطريقة ساخرة عموده الصحفى باسم أبو هانى، لكن السعدنى قرر أن يشارك هندى فى التحقيقات والتقارير الصحفية على أن يتناولها بنفس أسلوبه، وكان هناك الفنان المصرى ورسام الكاريكاتير محمد العكش الذى تولى تصميم الماكيت والاخراج الصحفى، وكانت له مساحة للكاريكاتير أدمنها أبناء الامارات فكانوا يطالعون الصحيفة أولاً من كاريكاتير محمد العكش.. ورحبت معظم صحف الامارات بالمولود الجديد، خصوصاً الجريدة الرسمية اليومية فى تلك الأيام وهى جريدة «الاتحاد» التى كان يرأس تحريرها الكاتب الصحفى الكبير مصطفى شردى رحمه الله، ومعه الأستاذ جمال بدوى رحمه الله وانشغل السعدنى لشوشته فى العمل الصحفى حتى يحفظ للفجر موقع الصدارة وسط الصحافة الاماراتية، لكن بعض أبواب الجريدة الثابتة تسببت لى فى مشكلات لا حصر لها، خصوصاً مع مدرس التربية الدينية، وكان بالاضافة الى عمله فى المدرسة يقدم برامج فى تليفزيون أبو ظبى.. هذا الرجل استنكر نشر بعض صور للفنانات بتوع أمريكا وأوروبا على صفحات «الفجر» وكان يعاتبنى باعتبارى مسئولاً عن تحرير الجريدة، وعبثاً حاولت أن أفهم هذا الرجل أن علاقتى بالجريدة هى علاقة قارئ بمطبوعة لكنه أصر على تعنيفى كل أسبوع، فكنت أسمع الكلام من أذن وأسمح له بالخروج من الأذن الأخرى، لكن هذا الأمر شجع الطلبة الموجودين على افتعال معارك مع شخصى الضعيف.. فكان السعدنى مثلاً اذا كتب عن عبدالناصر قام بعض الطلبة الفلسطينيين الذين يعتبرون أن عبدالناصر هو أس الفساد فى العالم العربى وأنه الذى خرب الديار وجلب العار على أمة العرب، ودائما ما كانت المسائل تبدأ بالكلام ثم تنتهى باللكمات والروسيات والشلاليت، والشىء الغريب أن بعض اخواننا من الفلسطينيين كانوا يكرهون ناصر والبعض الآخر يكرهون السادات، وكانوا يحرصون على سب السادات وحرمه ونعتهما بأحط الصفات.. والحق أقول اننى عانيت من حكم الرئيس السادات وأنا صغير بسبب سجنه للولد الشقى، لكن النبرة التى كان يتحدث عنه بها بعض زملائى من الطلبة الفلسطينيين كانت قاسية وتحمل ما هو أكثر من شخص السادات وتتعداه الى كل ما هو مصرى، فهو يشتم السادات بحرقة لا مثيل لها وبحماس منقطع النظير، فتجد الواحد من هؤلاء يكيل السباب ويردد كل ما فى قواميس حارة رابعة وما جاورها لشخص السادات والسيدة حرمه، ويتعمد البعض الآخر الذهاب فى نوبة ضحك هيستيرية، وبالطبع كنا مجموعة من الطلبة المصريين نشعر بالعار لأنك عندما تشتم رئيس مصر فأنتفى واقع الأمر تسب رمزاً مصرياً سواء اتفقت مع هذا الرمز و اختلفت معه.. وقد كان هناك ما يقرب من الخمسة مصريين فى الصف الأول الثانوى، ومنهم ثلاثة لاىفهمون فى أمور الحياة شيئاً سوى الدراسة والكتب والمذاكرة وتحصيل أكبر قدر من الدرجات فى الامتحانات.. وكنا - عاطف وأنا- وحدنا نتصدى لهذه الفصائل الفلسطينية المتناحرة المتناقضة التى اتفقت على أمر يتيم هو سب كل ما هو مصرى.. والكارثة الأكبر أن عملية اتفاق فض الاشتباك والكيلو «101» كانت عواقبها الوخيمة متمثلة فى علقة ساخنة كنا نتعرض لها كل يوم.. صديقى العزيز الذى لم أعد أعرف له مكاناً عاطف وأنا.. ولم يكن هناك بد من اشراك ادارة المدرسة لوقف الاعتداء اليومى والمتكرر من قبل الطلبة الذين نصبوا أنفسهم قضاة وخصوماً فى ذات الوقت، وكانوا يكيلون لنا الاتهامات كل يوم من أجل ان ينتهى اليوم كسابقة بمعركة طاحنة، لكن مدير المدرسة وكان غزاوياً استقبل الأمر باندهاش.. وجدته يقول لنا عاطف وأنا إن السادات باع «الكضية» يقصد القضية، فقد كان ينطق القاف كافاً وإن ما يفعله لا يليق ببلد كبير مثل مصر..وشرح لنا مثالاً عن أخ كبير يتولى زمر وحماية اشقائه الصغار وكيف انه اتفق مع اعدائه على أن يترك لهم اشقاءه الصغار كفريسة يفعل بهم ما يشاء بشرط الا يطاله شىء من الأذى من هذا العدو.. وبعد أن انتهى من ضرب هذا المثل الذى افحمنا ضرب المكتب بعصاه وهو يأمرنا بالانصراف قائلا: «استحوا يا أخى منك له.. على دمكم».. وخرجنا من مكتب هذا الرجل وقد أدركنا اننا ضائعون فى هذه المدرسة.. فإذا كان رب البيت بالدف ضارباً.. فما بالك بأهل البيت؟! لقد حاولنا أن نصادق هذه التيارات المتصارعة ونتحايل عليها لكن كل محاولاتنا باءت بالفشل، وتطورت الأمور الى الأخطر عندما جاء هنرى كيسنجر لزيارة القاهرة وخرج أحد الطلبة من المكافحين إياهم ليخبر بقية الطلبة ان النظام المصرى باع نفسه للأمريكان، وانهم فى القاهرة استقبلوا هنرى كيسنجر اليهودى، وذهبت اليه الراقصة «الفلانية» الشهيرة ورقصت له رقصة «سالومى» عارية كما ولدتها أمها.. وبالطبع لم نتحمل هذه النغمة ودخلنا فى معركة لم تنته وكأنه مكتوب علينا أن نعانى من نظام حكم الرئيس السادات داخل مصر وخارجها أيضاً، ولكن للحق أقول فان بقية الزملاء من الوطنيين كما يطلقون عليهم وهم أبناء الامارات كانوا فى غاية الرقة والظرف، وكان معنا من أبناء الامارات طالب اسمه سلطان العتيبى، وهو ابن شقيق وزير النفط فى ذلك اليوم مانع سعيد العتيبى، وكان معنا طالب شديد التواضع هو ناصر السويدى، ابن الرجل القوى فى الدولة فى ذلك الوقت أحمد خليفة السويدى.. وأما أغرب هؤلاء الطلاب فكان الشيخ حمدان بن مبارك وكان والده وزيراً للداخلية، ومع حمدان كان هناك طالب هو فى حقيقة الامر مرافق له اسمه عباس كان يرافقه كظله، وكنت أشك أن عباس يعلم شيئا من القراءة والكتابة على الرغم من وصوله الى الصف الأول الثانوى، وكانت المدرسة تمنح الطلبة راتباً شهرياً مغرياً لكى تحفزهم على تلقى العلوم، وتصرف لهم زياً مدرسياً صيفياً وشتوياً أيضاً وكان الجميع يتسلمون رواتبهم بمن فيهم الطلبة شديدو الثراء، وكانوا ايضاً يوزعون علينا وجبتين من الطعام لم نستطع أن نحصل على شىء منهم الأن عباس مرافق حمدان كان يقوم بخطف أقفاص الغذاء والفاكهة والهرب بها الى الصحراء الشاسعة التى تحيط بالمدرسة.. وكان الطلبة أصحاب السيارات يطاردونه مسافات بعيدة لكى يأكلوا حتى يشبعوا ثم يلقوا بما تبقى فى الصحراء، وهو نوع ثقيل من الهزار لم يتوقف على الاطلاق، وفى أحيان قليلة كان عباس يترك الطعام وتقوم بمعارك الهول على شىء لا نتمكن من رؤيته ينكب عليه الطلبة أولاد الامارات.. وذات يوم أردنا ان نعرف حقيقة ما يحدث.. فما هو هذا الشىء الذى يتعاركون حوله ضرباً بالعقال؟ واكتشفنا أنهم يتعاركون حول الجراد!! فقد كانت الجرادة أشبه بالفاكهة بالنسبة إليهم، وكانوا يفصلون الرأس ويلقون بالأجنحة ويلتهمون الذيل بما فيه، وكانت الجرادة من المأكولات المفضلة لأبناء الصحراء، وحدث أن انقلبت معدتى وأفرغت كل ما فيها وأنا اشاهد احد زملائى يتناول الجرادة بلذة شديدة وأصحابه يتابعونه فى لذة أشد وهم يحسدونه على الصيد الثمين الذى حصل عليه وسكن معدته.. منذ تلك اللحظة لم أعد اصاحب أحدا خارج الفصل الدراسى من الطلبة المواطنين خشية أن أشاهد منظر الجراد مرة أخرى.. أما الدراسة فقد كانت شديدة الاختلاف عما عهدناه، فقد تولت منظمة اليونسكو وضع المناهج على أحدث ما توصلت اليه أرقى الدول، وكان مدرس الرياضيات الحديثة من مصر لم تعد الذاكرة تحفظ اسمه وإن كان رسمه لايزال عالقاً بها محفوراً داخلها، فقد كان رجلاً قصير القامة ممتلئا الى حد ما أصلع يرتدى نظارة طبية سميكة لا تكاد ترى عينيه منها أو تحدد لهما ملامح.. وكان يتكلم وكأن شيئاً ثقيلاً جاثم فوق صدره، فلا تعرف اذا كان الصوت يخرج من فمه أو من مكان آخر.. ذات يوم دخل علينا الفصل الدراسى وهو ممسك بعلبة طباشير ملونة، وقام برسم مستقيم على السبورة ثم حدد نقطة فى آخر المستقيم من جهة اليسار باللون الأزرق، ثم استدار ناحيتنا وبطريقة بدت بلهاء تساءل.. أين تقع هذه النقطة بالنسبة للمستقيم؟.. ووقف الطلبة وحداً وراء الآخر وكلمهم اتفقوا على أن النقطة تحتل نهاية المستقيم من الناحية اليسرى، وفى كل مرة كان يشير الى الطلب بأن يجلس بطريقة فيها استهزاء لكنه لم يكن يفعل الشىء نفسه مع الطلبة من المواطنين الذين كانوا يحاورونه وهم فى الوضع جالسين.. وعندما فشل الجميع فى تحديد موضع النقطة بالنسبة للمستقيم استدار المدرس ناحيتنا بطلعته البهية وبصوته الذى يشبه أنين رجل ينازع الموت وقال والبلاهة تبدو على ناظريه «النقطة دى فى منتصف المستقيم تماما».. وعلى الفور يرد عليه أحد الطلبة المواطنين قائلا: - أنت حمار.. وسب والدة الأستاذ ذاكراً «بيت الولد» بالعامية الفصحى - وران صمت طويل.. فقد كانت الشتيمة واضحة مسموعة وتطال أم سعادة المدرس شخصياً، وقد استمع اليها المدرس بأم أذنيه وأيضاً جميع الطلبة لكنه تدارك الأمر وقال للطالب «والله أنا ما أفتهم عليك يا خوى.. انت أكيد مستغرب الاجابة».. فيعود الطالب ليكرر نفس الشتيمة ويزيد قائلا «امشى اطلع برة انت ما تفهم أى شىء.. ها دى رياضة حديثة ولا خبل حديث؟!.. وهبل حديث كيف يا راجل يا مخبول تجول النقطة فى نص المستقيم؟!.. وكأن المدرس لم يسمع من كلام الطالب إيه سوى السؤال الأخير.. فقام باستعدال وضع نظارته على عينيه وهو يقول «ده سؤال جميل ومهم فعلاً انتم يا ولاد لما بتشوفوا مركب مشية فى الخليج بتقولوا إيه؟! المركب ماشية فى نص البحر.. أهو الرياضة الحديثة كده بالضبط إحنا حنعتبر أى نقطة فى المستقيم برضه فى نص المستقيم بالضبط».. وفى تلك اللحظة ضرب جرس نهاية الحصة فقام الطلبة وأشاحوا فى وجه المدرس وقال بعضهم «والله هذه خرابيط ما هى علم ولا دراسة»!! فلملم المدرس أغراضه وقام بمسح النظارة فى قميصه وهو يسد أذنيه عن همهمات الطلبة خصوصاً المصريين الذين أخذوا عليه أنه لم يرد على الاهانات التى وجهت اليه وبراءة الأطفال فى عينيه.

ولكن الأمر الغريب فعلاً أن هذا المدرس بالذات كان اكثر الجميع استقرارا فى الامارة وظل يمارس مهنته دون أية منغصات فهو لا يهش ولاينش يقوم بشرح مادة الرياضيات الحديثة ويتحمل كل الاهانات والشتائم ويصنع ودنا من طين واخرى من عجين ويقوم بفتح منزله فى المساء لاستقبال الطلبة الذين يرغبون فى حصص اضافية وبمبالغ ضخمة وأمضى هذا الرجل فى الامارات سنوات طويلة قبل أن يعود الى مصر فى صندوق بعد أن صنع ثورة طائلة ولم يستمتع بها على الاطلاق فقد تركها للورثة وأصحاب الحظ والنصيب.