عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

»عيد الجهاد« صفحة ناصعة فى تاريخ التضحيات من أجل الوطن

بوابة الوفد الإلكترونية

يحتفل «الوفد» اليوم بالذكرى 104 لعيد الجهاد.. وهو أحد أهم الأعياد القومية والوطنية التى يجهلها الكثير من الأجيال الجديدة.. غير أنه يشكل الأساس للوطنية المصرية ومقاومة الاحتلال المقيت.. وبه انطلقت أعمال الفداء والمقاومة للاحتلال فأقضت مضجعه، وكانت السبب الرئيسى فى جلائه عن أرض مصرنا الحبيبة.

وقد ظل «عيد الجهاد» قائماً ومُحتفلاً به من الأمة المصرية على مدى خمسة وثلاثين عاماً امتدت بين سنة 1919 وسنة 1953، وكان العيد الوطنى الأول فى أذهان المصريين لأنه كان التدشين الحقيقى للقومية المصرية.

 ففى 13 نوفمبر سنة 1918 ذهب رجل استثنائى فى فكره وعقله وشخصيته، هو سعد زغلول بصحبة اثنين من الشخصيات البارزة هما عبدالعزيز بك فهمى، وعلى باشا شعراوى إلى المعتمد البريطانى فى مصر يُخبرونه اعتزامهم السفر لعرض قضية استقلال مصر على مؤتمر الصلح بباريس، وجرى أول حوار تفصيلى عن حقوق الأمة المصرية فى الاستقلال والحرية.

لقد كان التصور الخاص بالوطنية المصرية قبل ذلك التاريخ هو المفهوم الذى طرحه مصطفى كامل، مؤسس الحزب الوطنى فى مطلع القرن العشرين، والذى كان يقوم على جلاء الاحتلال البريطانى عن مصر، وعودتها ولاية تابعة للدولة العثمانية. كان المحامى الشاب يتصور أن تحرر البلاد يعنى خروج الاحتلال البريطانى، لكنه لم يكن يرى أن الاحتلال التركى يمثل احتلالاً وهو مفهوم يجانب روح الوطنية التى ولدت مع مقاومة الحملة الفرنسية، وتطورت فى ظل سطوع دولة محمد على وانتصاراته على الأتراك، حتى طرح بعض المفكرين مثل لطفى السيد عبارة «مصر للمصريين»، لتناقض المفهوم التقليدى الرجعى الذى طرحه مصطفى كامل.

نقرأ فى مذكرات سعد زغلول أنه قبل اللقاء كانت هناك خواطر نفسية تكابد من أجل الخير والعدل، فنجده مثلاً يكتب فى يوم 29 أكتوبر سنة 1918 «أشعر اليوم بأنه يجب على أن أرضى ضميرى فقط دون سواه، لأنى غريب عن الوسط الذى أنا فيه».

ونجده فى يوم 15 نوفمبر من العام ذاته يشير إلى لقاء الأمير عمر طوسون به ومحادثتهم فى قضية الدعوة لسفر وفد مصرى للمشاركة فى مؤتمر الصلح للمطالبة باستقلال مصر، ثم يشير بعد ذلك إلى ما خطر بباله من زيارة السير وينجت المعتمد البريطانى لإعلامه بما سيتم وسؤاله عن نوايا بلاده فى مصر.

ثم يكتب لاحقاً: «وذهبنا أنا وعلى باشا شعراوى، وعبدالعزيز بك فهمى وجرى لنا معه حديث طويل».

لكن تفاصيل ما جرى فى يوم 13 نوفمبر تستحق أكثر من وقفة وتحليل وقراءة. إننا نتخيل المشهد بوضوح حيث دخل ثلاثة رجال بسَمْت مهيب، وقامات معتدلة، ونظرات صاحية إلى دار السير وينجت بناء على موعد تحدد سابقا. كان أول الرجل الزائرين هو سعد زغلول، رجل مُهيب ستينى طويل القامة، رشيق البنيان، كثيف الحاجبين، مُهندم الشارب تحمل عيناه تأثيراً قوياً، يرتدى حُلة أنيقة، وطربوشاً أحمر، وينظر بثقة إلى صاحبيه اللذين يمنحانه قدراً من التقدير يتناسب مع كونه وكيل الجمعية التشريعية بدا أن السير وينجت كان يعرف سعد زغلول جيداً، فهو محام شهير، سبق استوزاره، وله حضور كبير فى المجتمع. أما الثانى فرجل ضئيل الجسم، بدا هادئاً، وقوراً، قليل الكلام، كان المندوب البريطانى يعرفه أيضاً إذ طالما سمع عنه فى القضايا الشهيرة، فهو محامِ له تقديره، اسمه عبدالعزيز فهمى.

أما الثالث فكان الأشهر، والأكثر معرفة لدى صاحب النياشين العسكرية التى حصل عليها فى خدمة مملكة صاحبة الجلالة، فهو واحد من أثرى الأثرياء، يمتلك مساحات شاسعة من الأراضى فى المنيا، ويسبقه جيش من الخدم، معروف بعلى باشا شعراوى. وكان هو أكثر من أثار دهشة واستغراب السير وينجت الذى كتب فيما بعد أنّ اتصال «شعراوى» باشا بهذين الرجلين «سعد وعبدالعزيز فهمى» بدا غريباً خاصة أنه من الأعيان الذين لهم كثير من الأتباع فى الجمعية التشريعية، والمتاح عنه من معلومات يؤكد أنه شخص متعصب وغير محبوب من الفلاحين. لكن هذه الإشارة من المعتمد البريطانى لم تكن صحيحة على إطلاقها.

المهم أن السير ريجنالد وينجت طبقاً لروايته، فإنه قبل باللقاء بسبب توسط حسين رشدى والذى يصفه بأنه رجل معتدل ومتعقل لا يشك فى تعقله. ربما تذكر سنوات خدمته فى الهند، والسودان، ومرت به مواقف عديدة لمعارك وصراعات شارك فيها هُنا وهناك، ثُم نظر إلى عدد من الأوسمة والنياشين التى وصلت به إلى منصب الحاكم الحقيقى لبلد عظيم وهام مثل مصر، رغم أن عمره لم يصل بعد إلى الأربعين.

 كان على ثقة تامة بأن هؤلاء البشر لا يصلحون لتسيير أمورهم، وفى حاجة دائمة لمن يعرف كيف يسوسهم، مُعتقداً ذات اعتقاد سلفه اللورد كرومر.

فى تلك الأثناء كان حُكم مصر ملكياً صورياً، لأن الحاكم الحقيقى هو المندوب البريطانى الذى يؤمن بأنه الآمر الناهى، والأول والأكبر، وصاحب الكلمة العليا دائماً. وهو على يقين أن ورثة العرش الصوريين يعلمون ذلك جيداً ويعرفون أن أى خديو أو سلطان فكر وسعى وحاول أن يكون حاكماً حقيقياً كان مصيره الخلع، ولم يكن الخديو عباس حلمى ببعيد عن أذهان العامة والخاصة، فقد خُلع الرجل خلعاً وهو خارج البلاد ولم يُعد إليها مرة أخرى.

ببسمة باردة اعتاد عليها استقبل الحاكم البريطانى الرجال الثلاثة، فحصهم، وفتشهم بعينيه الشقراوين، قبل أن يستمع إلى حديثهم. أخبروه بوضوح بأننا سنسافر إلى مؤتمر الصلح لنطالب باستقلال مصر وفقاً لحق الشعوب فى تقرير مصيرها.

فكر وينجت ذو الثمانى والثلاثين عاماً قليلا فيما يجب عليه فعله. كان من الواضح لديه أن سعد باشا هو أخطر الرجال الثلاثة، فهو الذى يتحدث بأسلوب طالب الحق، وهو لا شك رغم أنزوائه سنوات طويلة عن العمل الوطنى، وتزوجه من كريمة مصطفى باشا فهمى، لا يأبه بالعودة إلى المشاكل.

بهدوء السياسى المُحنّك سأل وينجت: هل تستطيع مصر الدفاع عن نفسها؟ لم يمنحه سعد وصاحباه فرصة تشتيتهم فى طريق آخر. أجابوا بوضوح وقوة: بالطبع تستطيع.

وطبقاً لمذكرات سعد زغلول، فقد كانت العصبية بادية على رجل بريطانيا، ولم يعدم الرجل وسيلة منطقية فسأل سؤالاً مباشراً: ما الصفة التى تتحدثون بها؟ ثم أردف: نعم أنت يا سعد باشا رجل منتخب فى الجمعية التشريعية «البرلمان» لكن ليس من حقك الحديث باسم شعب مصر. لا أنت ولا فهمى بك ولا شعراوى باشا.

كانت حجة الرجل قوية، وهى التى دفعت وينجت كى يقول فيما بعد: «فى الوثائق البريطانية السرية» ما يلى: «لقد نددت بأقسى الألفاظ بالحركة الوطنية السابقة وأبديت لهم نقداً صريحاً لمختلف وجهات نظرهم الحالية وكررت لهم التحذير من أن عليهم أن يتحلوا بالصبر وأن يضعوا موضع الاعتبار الكثير من التزامات حكومة صاحب الجلالة».

ترك الزعماء الثلاثة مكتب المندوب البريطانى بعد أن ظن أنه كبح جماح فكرتهم للسفر إلى بريطانيا. لكن رأس واحد منهم كان مُنشغلاً بأفكار جديدة غير تقليدية. سأل سعد نفسه: لِم لا نحصل على شرعية التوكيل من الشعب؟

التف حوله أصدقاء ومعارف وسعى هو إلى بعض العناصر

المعروفة بوطنيته ليُنشئ الوفد ومعه صاحباه ومكرم عبيد ومصطفى النحاس، وانطلق الشباب الوطنى فى

ربوع مصر من شمالها إلى جنوبها طالباً توكيلات من المصرييين.

يقول نص التوكيل، والذى أصبح أثراً لأيام مجيدة: «نحن، الموقعين على هذا، أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا وعلى شعراوى باشا وأحمد لطفى السيد بك ومحمد على بك وعبداللطيف المكباتى بك ومحمد محمود باشا ولهم أن يضموا إليهم من يختارون فى أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حينما وجدوا السعى سبلاً فى استقلال مصر تطبيقاً لمبادئ الحرية والعدل التى تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى وحلفاؤها ويؤيدون بموجبها تحرير الشعوب».  

بالطبع أقلق الأمر الدولة البريطانية الجبارة، وقررت التصدى بقوة وحزم للمطالب الوطنية، وهو ما يظهر بوضوح فى وثيقة بريطانية عبارة عن تقرير محفوظ برقم 16 لسنة 1918 يعيب على وينجت الهدوء والذوق فى استقباله للزعماء الثلاثة، وتنص الوثيقة على:

«ومما يؤسفنى أن السير رينجت لم ينبذ هؤلاء الوطنيين بطريقة أشد حزماً من الطريقة التى استخدمها. إن علينا أن نجعل سياستنا واضحة تمام الوضوح وإلا تعرضنا لكثير من المشاكل فى المستقبل».  

كان الحل السريع هو مواصلة التصدى بحزم وحدة وإرهاب. لذا صدر قرار سريع بالنفى بهدف إعدام روح الوطنية، وترهيب كُل مَن تسول له نفسه بطلب الفكاك من الدولة الكبرى. كانت تلك هى غلطة بريطانيا الكبرى، لأن سعد باشا لم يكن وحده، ولم يكن مُنسحقاً خوفاً أو مُتطلعاً طلباً لشىء من مركز أو نفوذ أو مكسب مالى، فالرجل عمل قاضياً، ومحامياً، وحقق ثروة معقولة رغم أنتمائه لطبقة وسطى، واختلط بالكبار وشارك فى الجمعية التشريعية، وحاز شهرة كبيرة بين الطبقتين الوسطى والعليا، فضلاً عن ذلك فإن عمره كان قد تجاوز الواحد والستين عاماً، وهو بلا شك يعلم أن ما بقى له فى الحياة أقل كثيراً مما مضى.

كان يوم 8 مارس هو يوم القبض على زعماء الوفد ونفيهم إلى مالطة، لكن وراءهم كان هناك جهاز سرى يشرف عليه ويديره رجل من أخطر الرجال هو الضابط عبدالرحمن فهمى. خلايا عنقودية متسلسلة لا يعرف أعضاؤها بعضهم البعض، مهمتها إشعال المظاهرات، وبث الدعاية، وتنظيم الإضرابات، والاعتداء على المحتلين، وقتل وتخويف المتعاونين معهم. كانت الثورة مسلحة، ولم تكن مجرد حركة سلمية هادئة تكتفى بالخطابة والنشر. لم يكد خبر القبض على سعد باشا ينتشر حتى انطلقت الثورة بمظاهرات للطلبة ثُم أعقبهم العمال، والموظفون، والعاملون فى المصالح الحكومية، وبدأت الإضرابات مخيفة ليصيب الشلل حكومة الاحتلال التى لم تتوقع أو تنتظر ذلك الغضب. تكرار سوء التصرف من جانب قوات الاحتلال أدى إلى تصاعد الغضب، وانطلقت رصاصات الإرهاب الإنجليزى ليستشهد أبناء مصر من الطلبة والفلاحين والشباب الباحث عن الحرية.

ومع الإرهاب الإنجليزى تحولت الثورة إلى ثورة مسلحة، لتقطع الطريق على قطارات الإنجليز القادمة من وإلى الصعيد، وتستولى على المُدن وتعلن انتهاء الاحتلال بالقوة، وتقتل الجنود والمستخدمين التابعين لجيش الاحتلال، وترهب أياً من المتعاملين مع قوات الاحتلال من المصريين.

وهكذا لم يكن أمام أكبر قوة عسكرية فى العالم فى ذلك الوقت سوى التراجع واضطرت بريطانيا إلى أن تفرج عن سعد ورفاقه وسمحت لهم بالسفر لعرض قضية مصر فى مؤتمر حق تقرير المصير، وأصبح لدى الأمة المصرية حزب قوى قادر على الدفاع عن حقوقها ومطالبها، وأصبح اسم سعد هو النشيد الصباحى لجموع البسطاء، واضطرت بريطانيا إلى إصدار تصريح 23 فبراير الذى يعترف باستقلال مصر، ثُم شارك الوفد فى الانتخابات البرلمانية التى أجريت سنة 1924 وفاز باكتساح ليشكل أول حكومة شعبية فى تاريخ البلاد، وهى التى لم يكتب لها البقاء طويلاً نتيجة حادث اغتيال السير لى ستاك.

ورحل سعد باشا زغلول فى 23 أغسطس سنة 1927 ليستكمل حزب الوفد بقيادة مصطفى النحاس بناء الدولة المصرية الحديثة رغم قلة سنوات ترؤسه للحكومة.

وهكذا صار يوم 13 نوفمبر هو يوم عيد للمصريين جميعاً، وظلت حكومات مصر، وأحزابها وساساتها ونخبها جيلاً بعد جيل تحتفل به. ولم يكن غريباً أن يسجل ضريح سعد زغلول فى 13 نوفمبر سنة 1952 زيارة رجال السلطة الجديدة إليه احتفالاً بعيد الجهاد، وهو العيد الأخير الذى احتفلت به الدولة رسمياً. اهتمت الصحف وقتها بتسجيل زيارة اللواء محمد نجيب، رئيس مجلس قيادة الثورة للضريح، ونشرت صورة له وهو يقرأ الفاتحة على روح سعد باشا زغلول، لكن لم تمض شهور قليلة حتى قررت السلطة الجديدة حظر حزب الوفد تماماً والتضييق على قياداته، ثُم لم تلبث تلك السلطة فى نسختها المعدلة بقيادة البكباشى جمال عبدالناصر أن لعنت الماضى برمته وأنهت الاحتفال بعيد الجهاد، حتى لم يعد يعرف أبناء الأجيال الجديدة ما هو ذلك العيد، رغم أنه يوم يجب ألا يُنسى.