رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

اقتفاء أثر قبرٍ مجهول لــ «سعد زغلول».. ماذا تخبئ جبّانة «الإمام الشافعي»؟

بوابة الوفد الإلكترونية

دُفن فيه «الزعيم» تسع سنوات قبل أن تنقل رفاته حكومة «النحاس» إلى ضريحه الشهير
عمر القبر يقدر بــ«مائة سنة» والأكثر تفردًا فى تصميمه بين منشآت الدفن
نجيب محفوظ شاهد عيان على مراسم التشييع 


ليست جبّانات الموتى القديمة وبالأخص في العواصم الكبيرة مجرد أماكن وارى ترابها جثامين صفوة العلماء والنُخب المجتمعية. الجبّانات مداخل للحيوات السابقة للراقدين فيها للمهتمين والباحثون، هي أيضًا أبنية فيها تنافسات فنية وحرفية بين البنائين والخطاطين فى إبراز حرفيتهم وشخصيتهم الفنية على هذه الدور التي عتقتها عجلة الزمن الدوّارة فصارت آثارًا للأقدمين تشبه كثيرًا المُتحف المفتوح بطرزها المعمارية المتنوعة وتفاصيلها الفنية على شواهد القبور وأعتاب المداخل. 


كنا ثلاثة.. التقيت أولًا الدكتور عبدالكريم الحجرواي، الناقد المسرحي، نزلنا إلى السيدة زينب ومنها إلى السيدة عائشة. كنت قد هاتفت إبراهيم طايع الهوّاري قبلها بليلة للإعداد لتلك الزيارة بصفته عارفًا بقبور النُخب فى القرنين الماضيين ومحبًا لزيارة قبور الصالحين وآل البيت. كانت منطقة السيدة عائشة مزدحمة كالعادة تسربنا من الزحام  إلى مقهى في درب خلف المسجد انتظارًا لوصول ثالثنا. 

تولدت لدينا جرعة من الحماس والهمة مع قدوم دليلنا فى هذه الرحلة، بدا «إبراهيم» مفعمًا بالنشاط ويرتدي ملابسًا رياضية تناسب هذه الرحلات الطويلة،  وبدأت رحلتنا إلى الإمام الشافعي ترجلًا نشق الكتل البشرية ونتجاهل ضجيج باعة الحيوانات فى ذلك السوق المتخصص والشهير بمنطقة السيدة عائشة. لم أكن قد إلتقيت بـ «إبراهيم الهوُّاري» من قبل وكان الطريق إلي مقابر «الإمام» مناسبًا. 

 

منذ 8 سنوات بدأ شغف «إبراهيم» بزيارة «القرافة» وقبل أن ينقل إقامته من سوهاج إلى القاهرة. يقول مبتسمًا.. «أصبحت أزور المقابر كل يوم بعد استقراري فى القاهرة ويلازمني شغف في استكشاف مقابر الشخصيات التاريخية المهمة في كل الحقب التاريخية، فروعة هذه العمائر كان ورائها فنانين وبنائين غاية فى الإبداع وبالتالي هي لا تقل في قيمتها الفنية عن الأبنية التاريخية الأخرى على اختلاف أغراضها». 

 

يضيف.. «من خلال هذه الزيارات تكون المعلومات متاحة أمامك لمعرفة أسماء حكام أو رجال دين مرت أسماءهم عليك من قبل، إضافة إلى استكشاف الطرز المعمارية وتواريخ الدفن من خلال شواهد القبور، وأسماء الخطاطين والفنانين الذين صمموا دور الدفن تلك وهي فى النهاية تراث قومي يجب الحفاظ عليه وصيانته والعمل على توثيقه للتعريف به». 

 

مع ظهور قباب مقابر الإمام  الشافعي من بعيد بدأ إنفاك الزحام من حولنا وإنتهي إمتداد سوق الجمعة، وأصحبنا قادرين على الترجل بسرعة للوصول إلى أكبر عدد من أبنية الدفن قبل غروب الشمس!. كنت أخطط لزيارة مدفن الأمير يوسف كمال الرحالة والفنان التشكيلي وهو من أبرز أمراء أسرة محمد عليّ، ولم أكن أعرف أننا سنكتشف قبرًا غامضًا لزعيم الأمة والحركة الوطنية المصرية التي تمخض منها الوفد المصري. دُفن الزعيم سعد زغلول فى الإمام الشافعي مؤقتًا، ثم نُقلت رفاته إلى مرقده الحالي بضريحه الشهير فى شارع الفلكي وسط القاهرة بعد 9 سنوات من وفاته. 

 

من مرويات شهود العيان على مكان المرقد المؤقت للزعيم سعد زغلول  بمقابر الإمام الشافعي، وجنازته، الراحل نجيب محفوظ، يروي أديب نوبل بمذكراته «صفحات من مذكّرات نجيب محفوظ» التي كتبها الراحل رجاء النقاش.. «أما يوم جنازة سعد زغلول فهو يوم من الأيام التي لا أنساها أبدًا. خرجت مع شلة العباسية وإنتظرنا موكب الجنازة فى ميدان الإوبرا. كان المنظر مهيبًا، وسرنا على الأقدام مع الجماهير الحاشدة التي رفعت نعش الزعيم على أكتافها حتي مدافن الإمام.قد كان الناس يحبونه لدرجة العبادة، وينزلونه منزلة التقديس والإجلال».  

 

كان مدفن الأمير يوسف كمال، مغلقاً وحارس «الحوش» ــــ كما يسمونه هناك، غائبًا ولم نستطع إستدعائه، إستبدل دليلنا «إبراهيم طايع» بسرعة هذا الموقع بأخر أمامه مباشرة وهو قبر الأميرة «نعمة الله» نجلة الخديوي إسماعيل وزوجها «محمود مختار باشا». كان الحارس العجوز ودودًا ومرحبًا بدا وهو يفتح المقبرة الأساسية وكأنه يفتح خزنة قديمة تحوي كنوزًا وهي كذلك فعلًا من الداخل.. شواهد القبور من الرخام الأبيض كتُب عليها باللغتين العربية والتركية بخط مذهب. 

 

امتازت منشآت الدفن الخاصة بالنُخب فى القرن العشرين وهي النماذج الأكثر احتفاظًا بتخطيطها المعماري القديم، بالرحابة والإتساع ووجود ملحقات ومنها غرفة الدفن الرئيسة، غرفة للحارس المُقيم، وغرفة استقبال للزوار من أسرة المتوفى، فضلًا عن حديقة صغيرة أو فناء. وهذا ما يُلاحظ فى أكثر من منشأة فى الإمام الشافعي. 

 

لم يخف الدكتور عبدالكريم الحجراوي دهشته من وجود قبر لسعد زغلول فى مقابر «الإمام»، وبدا مهتمًا بالأمر وشغوفاً بالزيارة خصوصًا أن جده الأكبر محمد عبدالواحد يونس المُتوفي سنة 1944، نظم الشعر«فن الواو» لسعد زغلول فى ثلاث مناسبات منها بعد عودته من المنفي بالإسكندرية. كان جد «الحجراوي» نقيبًا للأشراف بمدينة إسنا وكان يُطلق عليه «قوّال» مديرتا إسنا وقنا. 

 

تتشابه الشوارع ومنشآت الدفن في مقابر «الإمام» ورغم ذلك فدليلنا إبراهيم طايع يعرف الطرق المؤدية لمعظمها من دون أن يسأل أحدًا من سكان المنطقة وفي الطريق كان حريصًا أن يدلي بمعلوماته حول كل ما يقابلنا من أبنية، ولم نكن نستطيع أن نفوت زيارة قبر «نفيسة البيضاء» أرملة عليّ بك الكبير ثم زوجة تلميذه مراد بك وأشهر نساء طغمة البكّوات المماليك، تلك المعتوقة القوقازية التي أدارات المفاوضات مع الفرنسيين أثناء احتلالهم مصر. كان قبر «نفيسة» فقيرًا ربما يعكس نهاية حياتها المؤلمة والغريب أن ذلك القبر بالتحديد كان كل حراسه من النسوة! 

 

 

وسط صفوف المقابر التي تتراص بشكل عمودي منتظم فى الشوارع وتتقاطع أحيانًا وصلنا لقبر سعد زغلول الذي لم يكن مميزًا فى مدخله فقد أحيطت وحدات المدفن بسور غير مرتفع وباب صغير من الحديد. بخطي مُسرعة دخلنا من الباب ورفع «إبراهيم» صوته «السلام عليكم» لتحية أهل القبر. ووجدنا من يرد التحية بصوت خفيض! كانت إمراة عجوز طيبة وبشوشة من أسرة حارس المقبرة تمشي بخطي متثاقلة قادمة من ممر يقع إلى جانب غرفة الدفن. قلت لها: «جئنا لزيارة سعد باشا.. نحن من الوفد المصري» وعلى ما يبدو أن ذكر «الوفد» كان هو مفتاح الدخول لحجرة الدفن القديمة التي واري ترابهما جثمان سعد سنة 1927. فلم يكن إبراهيم طايع قد دخلها من قبل! وإن كان يعرف موقع المقبرة. 

 

كان التفرد والمغايرة هو المُلفت فى قبر سعد زغلول من الداخل مقارنةً بمنشأت الدفن الكثيرة فى مقابر «الإمام». أقيمت حجرة الدفن الرئيسية بنظام الجمالون الفراغي وهو هيكل إنشائي مصنوع من الدعامات المتشابكة فى نمط مثلث من خامات الخشب والحديد وارتكز السقف على حوائط بنائية. ويعد هندسيًا من أحسن الأنظمة المستخدمة فى تغطية المساحات الواسعة دون الحاجة إلى أعمدة داخلية، ويمتاز هذا النمط بالشكل المغاير وتوفير الإضاءة والتهوية الطبيعية. 

 

داخل غرفة الدفن ظهرت مزايا استخدام ذلك النمط الهندسي. توافرت الرحابة

والاتساع فى المساحة والتهوية والإنارة الطبيعية  من خلال السقف والشرفات الخشبية فى الحوائط، ومع الرحابة كانت هناك البساطة فلا شواهد قبور فخمة ممهورة بخطوط مذهبة. مجرد طبقة مرتفعة تتوسط أرضية غرفة الدفن و مكسوة بالرخام الأبيض ويزينها أصيص صبّار! أما الجدران فكانت تزينها آيات من الذكر الحكيم. 

 

توفي سعد زغلول فى العاشرة مساءً وخرجت جنازته الحاشدة فى اليوم التالي مباشرة من بيته ــــ مُتحف بيت الأمة حالياً، حسب شهادة الأديب نجيب محفوظ فى مذكراته السالف الإشارة إليها. ساعة الوفاة وتاريخها وثقت لها السيدة صفية زغلول «أم المصريين» في بيت الزوجية عندما أوقفت التقويم والساعة على تاريخ رحيل زوجها، وكأنها إعتبرت أن الحياة توقفت بعد رحيل سعد!. هي نفسها الزوجة الوفية التي ناضلت 9 سنوات لبناء وتخصيص ضريح يليق بالزعيم، إلى أن تولى الزعيم مصطفى النحاس رئاسة الوزارة وصدر قرار نقل رفات سعد زغلول باحتفال رسمي من مقابر الإمام الشافعي إلي ضريحه الحالي بشارع الفلكي. كتبت «صفية» إلى «النحاس» تشكره بعد صدور قرار نقل الرفات فى 12 يونيو 1936 وكانت لهجة الخطاب تقول إن الزوجة المخلصة ارتاح قلبها أخيرًا بعد نجحت مساعيها فى تخليد اسم زوجها أبد الدهر. 

 

تقول صاحبة العصمة.. «تشرفت بكتاب دولتكم الرقيق الذى تبلغنى به قرار مجلس الوزراء بنقل رفات زوجى المغفور له سعد زغلول باشا الى الضريح الذى بنى من أجله. وقد كان لهذا القرار أبلغ الأثر فى نفسى فلدولتكم وللمجلس جميعا أوفر الشكر وأجزل الحمد.على أننى نظرا للحوادث التى جرت فى هذا الشأن، وشعورًا بواجبى نحو فقيدى وفقيد البلاد، لا يسعنى ألا أن آذن بهذا النقل الا إذا كنت على يقين من أن ما تفضلتم بتقريره من تخصيص الضريح بزوجى وبى، ويظل باقيا أبد الدهر، فان تكفل القانون بذلك فحبًا وكرامة». 

 

لم يكن سعد زغلول يُخطط أن يدفن جوار بيته فى وسط القاهرة أو يُقام له ضريحاً فخماً بطراز العمارة المصرية القديمة، إختار سعد زغلول أن يُدفن في مقابر عادية ككل المصريين، فى الوقت ذاته لا يوجد تاريخ مُحدد لبناء قبره فى الإمام الشافعي فقد خلت غرفة الدفن من تاريخ الإنشاء، لكن المرجح إنه أقيم قبل سنة 1927، لأن سعد زغلول دُفن فيه فى اليوم التالي مباشرة لوفاته وهو ما يُوكد أن المقبرة كانت متممة وجاهزة، ويمكن تقدير عمر المدفن بحوالي 95 سنة استنادًا على تاريخ وفاة سعد زغلول. 

 
وبقيت هذه المقبرة أو المدفن في حيازة سلسال عائلته من بعده، فقد حوت لوحة رخامية صغيرة على واجهة غرفة الدفن ما نصه.. «مدفن عائلة الحاجة صفية زيد حفيدة سعد باشا زغلول» على الجانب الأخر من هذه الواجهة لوحة أخري باسم ورثة المرحوم شلبي إبراهيم زغلول، كما ضمت الواجهة لوحات  أسماء متوفين من العائلة.. محمود رشاد زغلول 2004، إبراهيم زغلول محمد البسيوني زغلول 2011، محمد عصام محمد شلبي بركات 2010، الدكتور محمد علاء الدين بركات 2012، المستشار محمد كمال زغلول مارس 2012، والشيخ محمد البسيوني إبراهيم زغلول يوليو 1979. 

 

أخذنا ترا ث منشأت الدفن وتفاصيلها فى الإمام الشافعي حتي غابت الشمس ودخل الليل وساد هدوء المقابر وظلامها  المعروف ويبدو إنه لم يتبق إلا نحن من جملة الزوّار المصريين والجنسيات الأخري، ففي السنوات الأخيرة إجتذبت جبّانة الإمام الشافعي زوارً ليسوا فقط من عائلات المتوفين إنما مهتمين مصريين بتراث معمار منشأت الدفن هناك إضافة أجانب من جنسيات متعددة أبرزهم طلاب الأزهر الشريف إناثاً وذكوراً من دول آسيا وهم مهتمون بزيارة مقابر الأولياء وشيوخ الإسلام الراحلين.

 

 كنّا سنغادر على أية حال ولكن محمد شافعي حفيد شيخ الخطّاطين حسن خالد ـــ الذي انضم إلينا فى نهاية اليوم، والذي كتب جده الكثير من شواهد قبور النُخب فى مقابر «الإمام» وغيرها، كان يتعامل مع الليل فى المقابر بأريحية شديدة وكأنه اعتاد الأمر!. أوجد «شافعي» خيطًا من الضوء عبر هاتفه وأخذنا إلى أحد القبور المتهدمة ومد يده داخل التربة وأخرج شاهد قبر ملقي بداخله وسلط عليها الضوء وشرح نوعية الخط وأسلوب كتابته بخبرته الموروثة عن أجداده. 

 

سارعنا الخطي لنبلغ المنطقة السكانية المجاورة لمقابر الإمام وكانت الأضواء الوحيدة تنبعث من مقابر «حوش الباشا» الخاصة بمقابر أسرة محمد علي باشا الكبير التي تشرف عليها وزارة السياحة والآثار. غادرنا مقابر «الإمام» بعد أن زرنا قبر سعد زغلول ، وقبل شهر من حلول ذكري وفاته فى 23 أغسطس القادم.