رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

خارج السطر

لو سئلت عن أهم الباحثين عن الحقيقة فى العالم لكان من بينهم ليبولد فايس. ذلك الصحفى الغريب الذى عمل معلماً ومترجماً وناقداً وفيلسوفاً، وعاش اثنين وتسعين عاماً يجوب الأرض بحثاً عن خلاص.

هذا الرجل النمساوى الأصل، يهودى الديانة، الذى ولد فى أوكرانيا سنة 1900، ثُم سافر بحثاً عن علم، ثم عمل ثم غاية مفسرة للوجود، فلف العالم، واختلط بالناس فى كل مكان: فى القدس والأردن وسوريا وليبيا والمغرب والحجاز والهند ومصر، وصاحب الملوك والقادة، وحارب إلى جوار الشعوب فى تصديها للاستعمار، تصدى للصهيونية، وراجع رأسه، وبدل أفكاره واعتنق الإسلام سنة 1926، وغير اسمه ليصبح محمد أسد. وقد ترك لنا مؤلفات كاشفة فى البحث والترحال ومراجعة النفس، ربما من أهمها كتاب «الطريق إلى مكة» الذى صدر منتصف الخمسينيات، وترجم إلى العربية.

ويلفت النظر فى الكتاب شهادته بشأن مصر والمصريين حيث زارها خلال العشرينيات لعدة مرات حتى أنه كتب «بت أعرف إيران ومصر أكثر مما أعرف البلاد الأوروبية».

فى زيارته الأولى عقب القبض على سعد زغلول، جاء إلى القاهرة مراسلاً لصحيفة «فرانكفورتر ذيتونج» وسكن فى بيت بحى شعبى صاحبته يونانية، ولم يكن لديه مال كافٍ لتحمل نفقات المعيشة، فعمل مترجماً للفرنسية بإحدى الشركات الأجنبية، إلى جانب عمله الصحفى.

استرعى انتباه ليبولد فايس مرح المصريين الغريب رغم سوء أحوالهم، وتساءل «كيف يمتلكون كل هذه القدرة على الضحك؟ وكيف يسايرون الأيام والزمن يوماً بعد يوم؟ كيف يسيرون فى الشوارع منتصبى القامة بخطوات مرحة فى قمصانهم الطويلة التى يسمونها جلابية بعقول حرة حتى يعتقد المرء أن كل هذا الفقر الطاحن والاضطرابات ليست سوى مزحة؟».

وفى الريف لفت نظره مشهد الفلاحات الرشيقات وهُن يعملن فى الحقول من الصباح الباكر بجد وحيوية. وعلق الرجل على المشهد مستغرباً كيف أن هؤلاء النسوة يحملن فوق رؤوسهن أوانى المياه الفخارية دون أن يسندنهن بأياديهن والبسمات تعلو وجوههن. يقول «ليبولد فايس» فكرت فى هذا المشهد مقرراً أنه لا يضاهيه جمالاً فى العالم أى مشهد من أعظم منشأة معمارية إلى أفضل كتاب معرفى».

فى لقائه مع الشيخ مصطفى المراغى، شيخ الأزهر، وفى محاوراته بشأن الدين مع نماذج من العامة لاحظ تسامحاً غريباً، وقبولاً للحوار العقلانى. وفى القطار كان شاهداً على حوار متزن وهادئ وحضارى بين عمدة مصرى لا يقرأ ولا يكتب، وخواجة يونانى بشأن تعدد الزوجات فى الإسلام، وراقه أن يمتلك العمدة المصرى كل هذه الرزانة والقدرة على الحديث بمنطق ودون تصعب.

كان الجمال حاضرا فى مصر رغم الاحتلال والاضطرابات وسوء الحال، وليس أدل على ذلك من أن ليبولد فايس أصيب بمرض الملاريا، وظل يخضع للعلاج فى منزله البسيط بالقاهرة، ولم يعنه على ذلك سوى صوت البيانولا التى يعزفها درويش بسيط بآلة غريبة لتصدر ألحاناً شجية وعذبة دون نوتة موسيقية.

ولفت نظره أيضاً أن المرح والتقبل وحب السخرية الذى كان يسيطر على المصريين لم يكن يعنى خضوعاً وانسحاقاً أمام السلطة المستبدة، فحسب تعبيره «كانت مصر فى حالة غليان مستمر ضد الوصاية البريطانية عليها. وكانت القنابل تلقى كل يوم على أماكن يرتادها الجنود البريطانيون، وكانت سلطات الاحتلال ترد بقسوة وتعسف وعنف مستخدمة الاعتقال والنفى وإغلاق الصحف وسياسات الترهيب، غير أن ذلك كله لم ينل من عزم المصريين لنيل حرياتهم».

كانت بصيرة الرجل حاضرة وهو يصف شعوباً وأمماً رآها وعايشها، تغيرت سلوكياتها وتبدلت أفكارها وتعرضت بعض سماتها المجتمعية لعواصف تجريف غريبة على مدى عقود تالية، وربما كان أهل مصر منهم.

والله أعلم

 

[email protected]