عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

خارج السطر

لا ظلام دائم، ولا ضياء مطلق. ومهما كانت مواقفنا الشخصية، فإن الضمير الإنسانى لأى باحث يشاغبه، ويلومه، ويدفعه كل يوم لمراجعة أفكاره، وما يتصوره من مسلمات أو أحكام نهائية.

أكتب ذلك، ويعرفنى مَن يعرفنى بأننى أحد ألد أعداء ثورة يوليو 1952. لم أعش صعودها وانحدارها، لكننى استقرأت من التاريخ ما شكل قناعتى بأن الثورة أجهضت مشروعاً حضارياً نهضوياً، ربما كان أبرز دلائل أسماء من عينة طه حسين، أحمد أمين، سلامة موسى، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، محمد عبدالوهاب، أم كلثوم، ومصطفى مشرفة.

فكل هؤلاء نتاج فترة ما قبل يوليو، عندما كانت السلطات موزعة، والآراء متعددة، والأفكار متحررة، ولم يكن هناك توجيه سلطوى، أو توظيف للفكر لخدمة فرد الزعيم. وكما قال نجيب محفوظ يوماً، فإن أسوأ ما أنتهجته ثورة يوليو ورسخته فى مصر، هو ميراث من الديكتاتورية العتيدة، ما جعل أجيالاً تالية على يوليو 1952 تظن أن الأصل فى مصر هو حكم الفرد.

رغم ذلك، فإن روح الإنصاف تدفعنى لتقديم شهادة بشأن هذه الديكتاتورية المكرسة من نظام يوليو، وخلاصتها أن الديكتاتورية المصرية كانت نموذجاً فذاً فى الديكتاتوريات المعروفة فى العالم من حيث درجة السماحة والميل للعفو واستبعاد الحلول الدموية. وأقول برضا: يُحسب لثوار يوليو– وأنا خصمهم– عزوفهم التام عن تصفية خصومهم السياسيين جسدياً، وقد كانوا يستطيعون.

كان المثال أمام شبان يوليو واضحاً وصريحاً، ولابد أنهم قرأوا جميعاً ما حدث يوم 18 يوليو 1917. ففيه وبعد عام من الثورة البلشفية ضد نظام عتيد فى روسيا أيقظ حراس سريون فى سجن بسيبيريا القيصر الأخير نيقولا رومانوف من نومه، واقتادوه هو وزوجته وابنه وبناته الأربع إلى قبو مهجور، ثُم جاء الحراس وأطلقوا عليهم جميعاً الرصاص ليقتلوهم بدم بارد.

لكن ضباط يوليو رفضوا إعدام الملك فاروق، ثُم رفضوا فيما بعد إعدام الزعماء السياسيين، بل رفض بعضهم ومنهم جمال عبدالناصر نفسه محاكمة مصطفى النحاس نفسه، رغم أنه يمثل خصماً محتملاً لزعامته الشعبية العظيمة، وكان رأيه أنه رجل صالح ومن يأتى عليه لا يكسب أبداً.

صحيح أن هناك حالات إعدام جرت لمتظاهرين أو خصوم مثل إعدام خميس والبقرى فى أغسطس 52، وإعدام عبدالقادر عودة ومحمد فرغلى فى 54، لكنها كانت حالات محدودة جدا، وارتبطت بحوادث معينة، وفى ظنى فإنها إذا قيست بتحول سياسى وتاريخى كبير فإنها تمثل حالات محدودة لا سمة عامة لنظام ديكتاتورى جديد.

لا ينسى تاريخ العراقيون مشهد صعود صدام حسين إلى السلطة فى بلدهم، ويؤرخون له بما جرى فى قاعة الخلد فى يوليو سنة 1979. وقتها تنازل الرئيس أحمد حسن البكر عن السلطة لصدام بذريعة اعتلال صحته، وعارض بعض قادة حزب البعث، فجمعهم صدام جميعاً فى القاعة، وجلس منتفخاً، وأعلن عن المؤامرة، وطلب من كل من يسمع اسمه الخروج ليتم القبض عليه. ثم حكم على أكثر من سبعين قيادياً بالإعدام، وأجبر رؤساء وأعضاء الحزب على التجمع فى ساحة الإعدام، لينفذوا الحكم فى رفاقهم.

كانت الديكتاتورية المصرية البازغة مع يوليو ناعمة، ولديها أرضية أخلاقية، وبعض التسامح، حتى إنها اعتمدت السجن والإقصاء والتشويه لخصومها فى معظم الأحيان بدلاً من القتل. صحيح أن الديكتاتورية لا يُمكن أن نرى منها أى خير، لكن مستوى الشر لديها كان أقل من مثيلاتها، اتساقاً مع مسحة الطيبة السائدة فى الشخصية المصرية عموماً.

فى بلدان كثيرة قريبة وبعيدة، كانت الديكتاتوريات دموية، عاتية، وسادية، وتعبث بأرواح البشر، وتفتك بكل مَن تشتم فيه روح معارضة، بينما أنعم الله علينا بديكتاتورية تحمل قدراً من الطيبة. وهذا بلا شك بعض ما يُحمد لثوار يوليو.

والله أعلم

 

[email protected]