رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

-1-

من بين الوثائق الدستورية المتعاقبة فى مصر منذ 1882 (أكثر من عشر وثائق) يبرز دستور 1923 بوصفه الأكثر ليبرالية وتمثلًا للروح المدنى. ومن هنا تأتى أهمية المقارنة بينه وبين الدستور الحالى الصادر فى 2014، لقياس نسبة التراجع فى مسار «الدولة المدنية» والتوجه التجديدى عمومًا بفعل التيار الأصولى.

ظهر دستور 1923 فى سياق سياسى وثقافى موات. أعنى فى لحظة المد الأعلى للحالة المدنية وقبل تبلور التيار الأصولى. صدر الدستور عقب تصريح 28 فبراير 1922 الذى اعترف بمصر رسميًا لأول مرة كدولة مستقلة ذات سيادة، وفى ظل تنامى الروح الوطنى الذى كرسته ثورة 1919، وتراكم نتائج التحول الحداثى الذى بدأ على يد الدولة قبل أكثر من قرن وصار ظاهرًا الآن داخل المجتمع على المستوى الاقتصادى والاجتماعى والثقافى.

فى المقابل، ظهر الدستور الحالى فى سياق صدامى مشحون سياسيًا وثقافيًا عقب الضغوط الشعبية الواسعة الموجهة من قبل القوى المدنية والتى أدت إلى سقوط حكومة الإخوان. وقد صدر كنسخة تنقيحية معدلة من دستور 2012 الإخوانى المشبع بحمولة سلفية واضحة تعكس حجم التوغل الأصولى وتمدده فى بنية الدولة. ورغم نجاحه النسبى فى تخفيف هذه الحمولة، ظل الدستور الحالى مشربًا بملامح «تراثية» مناقضة لمفاهيمه المدنية الأصلية التى بقى محافظًا عليها، وصار مسرحًا لحزمة من المبادئ المتعارضة التى يشوش كل منها على فاعلية الآخر. بالنتيجة ومقارنة بدستور 23 الملكى، يبدو الدستور الحالى أقل احتفاءً بمبادئ الدولة المدنية الحديثة رغم الإشارة إليها فى الديباجة ومتن النصوص.

-2-

المواطنة

يكشف دستور 23 عن توجه حداثى (مدنى) صريح، بدءًا من ديباجته القصيرة التى خلت من الإشارة إلى الدين، وتكلمت عن نظام دستورى كأحد الأنظمة الدستورية فى العالم وأرقاها يضع مصر فى مصاف الأمم «الحرة المتمدينة». انحاز الدستور إلى خيار «القومية المصرية» على حساب فكرة «الجامعة الإسلامية» التى كانت تروج للاستقلال عن بريطانيا فى إطار الخلافة العثمانية، والتى ظلت مطروحة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وثورة 1919. وأكد على مبدأ المواطنة كأساس للدولة فى نص المادة الثالثة: « المصريون لدى القانون سواء. وهم متساوون فى التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف، ولا تمييز بينهم فى ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين».

الصياغة المباشرة للنص تعبر عن مفهوم المواطنة بمعناه الحقوقى الصريح حسب المعايير الدولية، التى تؤكد على فكرة المساواة أو عدم التمييز بين المراكز القانونية للمواطنين خصوصًا بسبب الدين. ويبدو التناغم واضحًا بين هذه المادة وبقية المواد التى تعالج حرية الاعتقاد وحرية إقامة الشعائر الدينية ( م.12، م. 13).

خلافًا لذلك، تكشف ديباجة الدستور الحالى عن اضطراب تنظيرى فادح، يعكس حالة التراجع أمام الضغوط الأصولية، ويحاول الخروج بنص توفيقى يجمع بين مطالب الضغط السلفى ومبادئ الدولة الوطنية.

 تبدأ الديباجة – فى رطان خطابى ركيك- باستدعاء الحضور التاريخى للدين فى مصر بتجلياته التوحيدية الثلاثة وصولًا إلى الإسلام. وفيما تؤكد على استهداف «بناء دولة ديمقراطية حديثة حكومتها مدنية» تؤكد فى الوقت ذاته على أن « مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع» فى هذه الدولة. لكنها تعود فتقيد هذه المبادئ داخل أطر الدولة الحديثة من خلال إخضاعها تفسيريًا لرقابة «المحكمة الدستورية العليا».

نظريًا، لا يتراجع الدستور عن مبدأ المواطنة، بل يشير إليه فى الديباجة ويعالجه موضوعًيا فى المادتين (4)، (9) غير أن صياغة المادتين توحى بالالتفاف على المضمون المطلق للمبدأ وباستهداف تقييده: فالمادة (4) تشير إلى مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين»، لكنها تضيف مباشرة: « وذلك على الوجه المبين فى الدستور»، وهى عبارة يمكن قراءتها كاحتراز من أوجه تمييز متوقعة يحميها الدستور ذاته وتستند أساسًا إلى مادته الثانية الخاصة بالشريعة. (راجع على سبيل المثال المواد القانونية التى تتعلق بحقوق المرأة وتعارضها مع هذه المادة ومع المادة (11). وراجع أيضًا المادة (64) من الدستور ذاته وما بعدها من المواد التى تنظم حرية الاعتقاد وحرية الفكر والرأى والبحث العلمى والإبداع الفنى وقابليتها للتفسير داخل حدود المادة الثانية).

أما المادة (9) فيجرى نصها كالآتى: « تستلزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز»، وهى صياغة مقتضبة تغفل عمدًا تعداد الأسباب التى يقوم عليها التمييز فى المراكز القانونية، وفى مقدمتها الدين. والمعنى أن مفهوم المواطنة لم يحظ – على أهميته البالغة بالنسبة إلى دستور مدني- بما يستحق من الحماية، وصار عرضة للانضواء تحت مفهوم الشريعة الذى تم إقحامه داخل بنية الدستور.

-3-

المادة 149

رغم ملامحه العلمانية الواضحة، لم يبد دستور 23 مدنيًا بالقدر اللازم فى مصر مطلع القرن الماضى. وُجهت إلى الدستور سهام النقد من زاويتين: الأولى تشير إلى طابعه « الأوتوقراطى» النسبى الذى يظهر فى توسيع سلطة الملك على حساب البرلمان والحكومة، والثانية تتعلق بالمادة 149 التى تنص على أن « الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية». بالنسبة إلى التيار التجديدى كانت هذه المادة تناقض أسس الدستور ذاته، وتنطوى على مخاطر «ثيوقراطية» تهدد الطابع المدنى للدولة.

فى تعليقه على مشروع الدستور لفت محمود عزمى إلى التناقض الظاهر بين هذه المادة وحكم المادة 12 التى تنص على أن « حرية الاعتقاد مطلقة»، وحذر من استغلالها من قبل «أصحاب الآراء العتيقة» أمثال الشيخ شاكر، الذين يطالبون بناء عليها «بضرورة اشتمال مواد الدستور بما يجعل أحكام الدين هى المتفوقة على كل تشريع.. الأمر الذى سيجر على البلاد ارتباكًا قد ينقلب إلى شر مستطير» سيأتى وقت على سكان مصر فى هذا القرن العشرين فتقطع الأيدى والأرجل من خلاف.. ويحكم بالرجم بالحجارة.. ويكون السن بالسن والعين بالعين. نحن نلفت النظر وسنستمر على لفت النظر إلى الخطر المحدق الذى يجىء عن طريق ذلك النص (جريدة الاستقلال 22/9/1922).

وفى السياق ذاته سيشن طه حسين هجومًا عنيفًا على الدستور يذهب فيه إلى أن المادة 149 «مصدر فرقة» داخل الأمة، لا بين المسلمين وغير المسلمين فحسب، بل بين المسلمين أنفسهم، فهم لم يفهموه على وجه واحد.. وأن النص على دين للدولة يتناقض مع حرية الاعتقاد، لأن معنى ذلك أن الدولة مكلفة أن تمحو حرية الرأى محوًا فى كل ما من شأنه أن يمس الإسلام من قريب أو بعيد سواء صدر ذلك عن مسلم أو غير مسلم.. ومعنى ذلك أن الدولة مكلفة بحكم الدستور أن تسمع ما يقوله الشيوخ فى هذا الباب، فإذا أعلن أحد رأيًا أو ألف كتابًا ( كتب طه حسين هذا المقال سنة 1927 بعد عام واحد من معركته حول كتاب « فى الشعر الجاهلى) أو نشر فصلًا أو اتخذ زيًا.. ورأى الشيوخ فى هذا مخالفة للدين ونبهوا الحكومة إلى ذلك، فعليها بحكم الدستور أن تسمع لهم.. وتعاقب من يخالف الدين أو يمسه». وواصل طه حسين هجومه على أنصار الفكر السلفى الذين يناهضون فكرة الدستور من حيث المبدأ: « كتبوا يطلبون ألا يصدر الدستور، لأن المسلمين ليسوا فى حاجة إلى دستور وضعى ومعهم كتاب الله وسنة رسوله.. وذهب بعضهم إلى أن طلب من لجنة الدستور أن تنص على أن المسلم لا يكلف بالواجبات الوطنية إذا كانت هذه الواجبات معارضة للإسلام.. وفسروا ذلك بأن المسلم يجب أن يكون فى حل من رفض الخدمة العسكرية حين يكلف بالوقوف فى وجه أمة مسلمة كالأمة التركية مثلًا» (مجلة الحديث فبراير 1927).

-4-

كان طرح محمود عزمى وطه حسين يعبر عن طموح التيار التجديدى لتحقيق النموذج «المثالي» للدولة الوطنية. وهو طرح متفائل يحسن الظن فى قدرة المجتمع والدولة على إنجاز تحول مدنى كامل فى المدى القصير، أى على التخلص سريعًا من حمولة الموروث الثقافى التاريخى الأمر الذى يحتاج إلى تطور جذرى طويل المدى على مستوى الهياكل الكلية (الاقتصادية/ الاجتماعية/ ومن ثم العقلية).

واقعيًا نحن حيال دستور حداثى مغروس فى تربة تراثية؛ يمكن تصوير الموقف كالآتى:

1- ثمة مناخ مدنى يتفاقم بوجه عام، لكن من أعلى اعتمادًا على قوة الدفع التى تمثلها الدولة والنخبة التجديدية.

2- الثقافة التراثية حاضرة، لكنها لم تتحول بعد إلى حركة أصولية مؤدلجة ومنظمة سياسيًا ( مثلما سيحدث لاحقًا نتيجة لظهور وتطور الإخوان). ولذلك كانت قوة الدفع المدنية قادرة على احتواء المناكفات السلفية، ولم يؤد حضور المادة 149 إلى التشويش جديًا على الطابع المدنى العام للدستور، ولا على مشروعية القوانين الوضعية السارية منذ القرن التاسع عشر، ولم تفهم كدعوة إلى استدعاء الشريعة لتحل محل هذه القوانين.

وضعت المادة فى موقع متأخر بين مواد الدستور (الباب السادس، أحكام عامة)، وبوجه عام جرى التعاطى معها كمجرد إشارة إلى ديانة الأغلبية، وهى إشارة تحيل ضمنًا إلى المعنى الروحى الفردى إلى الدين، البعيد عن السياسة والدولة والقانون. ومع ذلك ظلت هذه المادة تبدو كجسد غريب بالنسبة إلى نسق دستورى مدنى. وفى هذا الإطار يشار عادة إلى الظرف السياسى الثقافى الخاص الذى ظهرت فيه، فقد قدمت باقتراح من الشيخ بخيت المطيعنى مفتى مصر وعضو لجنة الدستور، وبإيعاز مباشر من الدولة وسلطة الاحتلال التى كانت تخشى من تمدد اليسار الشيوعى الذى بدأ يظهر فى مصر مطلع القرن العشرين. وهكذا يمكن قراءتها كنص احترازى فى سياق المواجهة ضد الأفكار الشيوعية وليس ضد المشروع المدنى الحداثى بوجه عام.

لكن هذا النص العام، القابل للتأويل السياسى، ظل يوفر فرصة مواتية للتصعيد الأصولى.

يتبع..