رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

 

-1-

مع تواصل العملية التحديثية فى مصر بامتداد القرن التاسع عشر، تشكلت ثقافة «الدولة المدنية» التى تقوم على المواطنة والقانون. لكنها لم تقطع كليًا مع ثقافة النظام التراثى، التى ظلت حاضرة كخلفية عامة للوعى الشعبى، فضلًا عن حضورها النظرى كمدونة فقهية موازية للقانون. وبالنتيجة، لم يسفر النموذج المصرى عن دولة مدنية «خالصة» على الطراز الأوربى، بل عن دولة مدنية «مهجنة» بعناصر تراثية. عمليًا، ومع الجاذبية المبكرة للحداثة أمكن احتواء هذه العناصر داخل المفاهيم المدنية، وصارت المعادلة الثقافية تشير إلى حالة من التوافق الحداثى التراثى المنضبط بإدارة الدولة. وهى الحالة التى بلغت ذروتها فى أوائل القرن الماضى وظلت قائمة حتى تفاقم التيار الأصولى فى أواخر القرن، حيث بدأت الازدواجية الثقافية تفرز أعراضها السلبية على مستوى المجتمع، وظهرت إشكاليات التناقض المضمر داخل البناء القانونى للدولة.

-2-

منذ البداية مثلت المدونة الفقهية مصدرًا رسميًا للتشريع فى مسائل الأحوال الشخصية، لكن ذلك صار يتم تحت اسم «القانون» وسلطة القضاء المدني؛ بشكل انتقائى جرى «تقنين» أحكام من المدونة وصبها فى صياغات مدنية حديثة كى تندمج فى النسق العام للنظام القانونى وآلياته القضائية، بمعنى أنها تحولت إلى جزء من بنية القانون (الوضعي) السارى، تساير أغراضه التجديدية وتخضع لنموذجه التفسيرى والإجرائى.

خارج نطاق الأحوال الشخصية، ظلت المدونة الفقهية حاضرة عبر «الفتوى» كمصدر تشريعى اختيارى للأفراد، لكنها لم تطرح قط كبديل عام يحل محل القانون قبل تفشى الأصولية السياسية فى أواخر القرن الماضى. بدأ هذا الطرح يظهر على استحياء مع حسن البنا ولم يصمد أمام قوة التوجه المدنى للدولة وعلى المستوى العام. لكنه سيتجدد مع التصعيد الأصولى الثانى عقب انتهاء الحقبة الناصرية، حيث وجد التيار الأصولى مناخًا مواتيًا فى ظل التوجهات الجديدة لنظام السادات الذى كان يرمى إلى توظيف الإسلام السياسى فى تحجيم اليسار. وفى هذا السياق ظهر لأول مرة على صفحة الدستور المصرى ما سيعرف بالمادة الثانية أو «مادة الشريعة» التى سيتكرر حضورها فى الدساتير اللاحقة لتشكل حالة «مزمنة» من التوتر القانونى والسياسى والثقافى.

-3-

يبدو هذا التوتر واضحًا فى وثيقة الدستور المصرى الأخير (2014) الذى صدر فى سياق صدامى عقب سقوط حكومة الإخوان المسلمين. تبدأ الوثيقة بديباجة خطابية مطولة تجمع بين مفردات سياسية وثقافية متعارضة، فى محاولة لاسترضاء التيارين المدنى والتراثى. تلوح الديباجة بنوع من الهوية المهجنة وتحشر مصطلح «الشريعة» فى سياق الحديث عن الدولة المدنية.

المشكل هنا فى استحالة التوفيق بين الشريعة والدولة المدنية الحديثة بحكم التناقض الطبيعى بين الطرفين على مستوى الأهداف والبنية الموضوعية؛ يقوم الدستور المدنى على مفهومين أساسيين: المواطنة، والقانون، وكلاهما يتناقض مع أصول النظام التراثى الإسلامى ويستهدف استبعاده بوعى صريح. مفهوم «المواطنة» يعنى استبعاد فكرة الرابطة الأممية أو الخلافة الجامعة من ناحية، وينفى فكرة التمييز بين الأفراد داخل الدولة على أساس الدين من ناحية ثانية. أما مفهوم القانونى فيعنى استبعاد صيغة «الفقه» التقليدية التى تشير إلى تشريع ثابت مؤبد منسوب إلى السماء، والتحول إلى صيغة التشريع المرن الذى يصدر عن المجتمع للتعبير عن حاجاته المتغيرة.

تاريخيًا، تبلور مفهوم الدولة الحديثة على وقع الصدام مع النظام التراثى الدينى بالذات. أصل التناقض بين الطرفين يكمن فى طبيعة النظام التراثى الذى يصر على اعتبار الشريعة جزءًا من بنية الدين، أى على حكم المساحة الاجتماعية التى تنظمها الدولة من خلال القانون، الأمر الذى ينطوى على ازدواجية فى السلطة منافية لطبيعة الدولة فى ذاتها. وفيما وراء ذلك تقر الدولة الحديثة بالحضور الروحى للدين داخل الذات الفردية وعلى مستوى المجتمع.

تحاول الديباجة تقننين حالة الازدواجية الثقافية الكامنة فى الوعى المصرى وترجمتها إلى مواد دستورية. حضور الازدواجية وارد ومفهوم على مستوى الثقافة بحكم طبيعتها التراكمية التعددية، وتوفرها على آليات عملية للتوفيق بين المفاهيم المختلفة، لكن الازدواجية غير قابلة للبقاء على مستوى السلطة التى تنفرد بها الدولة، ومن ثم على مستوى الدستور بما هو فى نهاية التحليل مجموعة من الأحكام القانونية التى تنظم سلطة الدولة، والتى يلزم فيها «التحديد» وهو مفهوم استبعادى بذاته.

-4-

ورث الدستور الراهن أعراض الارتباك القانونى التى حملتها الوثائق الدستورية المتعاقبة منذ ظهور المادة الثانية «المعدلة» فى دستور 1971. لقد أقحمت هذه المادة مصطلح الشريعة «الديني» على النسق العام لدستور مدنى «علماني». وظلت نتائجها السلبية تتفاقم مع تصاعد الضغوط الأصولية التى بلغت ذروتها باستيلاء الإخوان على السلطة فى اضطرابات 2011.

ورغم صدوره فى سياق سياسى مضاد للأصولية، لم يستطع دستور 2014 أن يتخلص من سطوة «المادة الثانية» الخالدة منذ دستور 1971، بل لم ينج تمامًا من بصمة الأسلمة السياسية التى فرضتها القوى السلفية فى دستور 2012 الإخوانى كما يظهر من نص المادة السابعة التى تكرس للأزهر موقعًا مركزيًا داخل البنية المؤسسية للدولة، من خلال النص عليه فى صلب الدستور (وليس مجرد قانون كما فى السابق) مع التأكيد على تحصين منصب شيخ الأزهر من العزل واختياره من بين «هيئة كبار العلماء»، وهى خطوة تراجعية تضفى المزيد من التشويش على الطابع المدنى للدولة. وبالنتيجة ظل الدستور كسابقه وثيقة مرقعة ومتناقضة ذاتيًا، فضلًا عن تناقضها مع أحكام القوانين السارية. وفى ظل الثقافة السياسية السائدة يجرى الالتفاف على هذا التناقض بالتأجيل والتأويل، رغم نتائجه الإشكالية الفادحة.

-5-

فى 1996 تصدت المحكمة الدستورية العليا لمشكل المادة الثانية من جهة تناقضها مع القوانين السارية، وانتهت إلى أن: هذه المادة تمنع سن قوانين «جديدة» مخالفة لمبادئ الشريعة الإسلامية، أى لأحكامها القطعية فى ثبوتها ودلالاتها، وأن القوانين السابق سنها قبل سريانها اكتسبت حصانة دستورية ولا يمكن إسقاطها إلا بنص صريح من السلطة التشريعية، وأكدت على أن المادة تخاطب السلطة التشريعية لا القضائية، ومن ثم لا يجوز للقاضى أن يترك القانون الصادر عن السلطة التشريعية بحال مهما كان مخالفًا للشريعة، كما أكدت على أن تقرير ما إذا كان حكم الشريعة قطعيًا هو مسألة موضوعية تنفرد بتقديرها المحكمة الدستورية العليا دون رقابة عليها من أحد.

هذا التصدى يكرس «أولوية» المبادئ المدنية الأساسية التى تلزم بصدور القانون عن السلطة التشريعية، بمعنى أن على الشريعة كى تكون ممكنة التطبيق أن تتخذ شكل «تشريع» صادر عن هذه السلطة ومؤدى ذلك أن أحكام الشريعة تتبع آليات النظام القانونى بنسقه الإجرائى والتفسيرى، أى تعمل تحت هيمنة المبادئ الدستورية الأساسية ذات الفحوى المدنى. وفى هذا الإطار تفهم عبارة «المصدر الرئيسى للتشريع» كإشارة مرجعية موضوعية خارجية يمكن أن يستمد منها القانون، لكنها فى جميع الأحوال ليست القانون، ومع ذلك فالمشكل لا ينتهى إلى هذا الحد، لأن صب الشريعة فى صيغة القانون الصادر عن السلطة التشريعية يضعها تحت الرقابة الموضوعية للدستور لضمان توافقها مع مبادئه الأساسية. وفى هذا السياق يمكن إثارة النقاش حول دستورية قانون الأحوال الشخصية مقابل نصوص المساواة بين الرجل والمرأة، وبين المسلم وغير المسلم.

وفى الوقت ذاته يظل مشكل التناقض الذاتى داخل الدستور قائمًا بفعل حضور المادة الثانية، التى جعلت من مبادئ الشريعة جزءًا من أحكام الدستور. كيف يمكن التوفيق مثلًا بين هذه المادة الثانية والمادة (4) من الدستور (التى تقرر مبدأ المساواة بين جميع المواطنين فى الحقوق والمراكز القانونية بما يعنى عدم التمييز على أساس الدين)، وبينها وبين المادة (11) (التى تكفل تحقيق المساواة بين المرأة والرجل فى جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية).

الارتباط الناجم عن المادة الثانية يمكن قراءته كالآتي:

1ـ فقهيًا، تحجب الشريعة ما سواها ويلزم تقديمها على مبادئ الدستور، ومن ثم تطبيقها على القوانين السارية بأثر رجعى.

2ـ مدنيًا، يحجب الدستور ما سواه وتقدم أحكامه على أى قانون ولو كان مستمدًا من الشريعة كما فى قانون الأحوال الشخصية.

ومؤدى ذلك هو النتيجة الآتية:

جميع القوانين فى مصر بما فى ذلك قانون الأحوال الشخصية غير دستورية (جزئيًا)، إما بحكم المادة الثانية من الدستور، أو بحكم بقية مواد الدستور.

يتبع....