رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

تقدم لنا قضية شنودة مثالًا واضحًا لإشكاليات التضارب التشريعى فى الدولة «الوطنية» المعاصرة فى العالم العربى. وهى نتيجة ضرورية بالنسبة إلى دولة لا تزال تواجه صعوبات «التشكل» كدولة مدنية حديثة، فى ظل مستوى التطور الاقتصادى والاجتماعى والثقافى العام. أعنى لا تزال تعمل على احتواء المجتمع بتكوينه الدينى التراثى داخل دستور علمانى يقوم على مبدأى القانون والمواطنة.

بدأت وقائع القضية فى مصر قبل أربع سنوات، عندما عثرت امرأة مسيحية على طفل حديث الولادة بإحدى دورات المياه داخل الكنيسة. وبعد تعميده مسيحيًا قام الكاهن بتسليمه إلى المرأة وزوجها لحضانته، وتم تسجيله فى الوثائق الرسمية كإبن للزوجين. تقدمت إحدى قريبات الزوج ببلاغ إلى النيابة العامة تطعن فى نسب الطفل. وبعد أن خضع الزوجان لتحليلات الحمض النووى أمرت النيابة بإيداع الطفل دار أيتام عامة بوصفه مجهول النسب، وتغيير اسمه من شنودة إلى يوسف.

أثار القرار جدلًا واسعًا فى الشارع المصرى المشحون بحساسيات الدين السياسى، وكالعادة ظهرت قراءتان متقابلتان: الأولى تقف أمام القسوة البادية فى نزع طفل فى الرابعة من حضانة « أمه» التى ترعاه، وتعطى الأولوية لهذا البعد الإنسانى على أى اعتبارات قانونية. والثانية تقف أمام التطبيق الحرفى للقانون، الذى يقضى – استنادًا إلى الشريعة الإسلامية- بحظر التبنى مطلقًا، واعتبار الطفل مسلمًا بفطرة الميلاد.

-2-

كلتا القراءتين تضع الشريعة الإسلامية فى حرج التناقض مع الروح الإنسانى، وحركة الحاجات الاجتماعية المتجددة. فهل صحيح أن هذه الشريعة تقطع بتحريم التبنى مطلقًا بما فى ذلك حالة «مجهول النسب»، وتفرض نسبته إلى الإسلام؟ أم أن هذه المسألة بشقيها قابلة للنقاش وإعادة طرح الأسئلة حول مفهوم «الشريعة» بوصفها مدونة تاريخية موروثة تشكلت على يد الفقهاء فى عصر التدوين (ومن ثم تتسع لإعادة التشكل)، وحول مفهوم «التبنى» الذى جرى استنباطه فى سياق اجتماعى بعينه، تأويلًا لنص خاص بالرسول (ومن ثم يتسع لإعادة التأويل)، وكذلك حول مفهوم «الإسلام» الفطرى، بوصفه مفهومًا مذهبيًا ضيقًا ينتمى إلى نسق التدين الحصرى الموروث من ثقافة الصراع ( ومن ثم يتسع لإعادة التكيف مع التعددية الطبيعية).

لكن هذه الأسئلة، على أهميتها، لا تغطى جوهر المشكل الذى يواجه الشريعة الإسلامية فى السياق الراهن. جوهر المشكل يتعلق بحضور الشريعة. من حيث المبدأ، داخل نموذج الدولة المدنية القائمة فى العالم العربى، حيث تجرى محاولة التوفيق بين نظام تشريعى مطلق (حصرى مؤبد) ونظام دستورى مدنى (تعددى ومتغير).

وفقًا لهذا «النموذج»، تقوم الدولة على مبدأ «القانون» كغطاء تشريعى «عام» لكنها تسمح بحضور الشريعة كقانون مواز يغطى مساحة تشريعية واسعة هى دائرة الأحوال الشخصية (الزواج/ الطلاق/ الميراث/ النسب). وبحكم الدستور تخضع الأقليات الدينية فى مصر لشرائعها الخاصة، ما يعنى وجود تشريعين دينيين حاكمين بجانب القانون الذى يبدو علمانيًا خالصًا خارج نطاق الأحوال الشخصية.

لكن القانون رقم 12 لسنة 1996 الخاص بالطفل، عاد ليقضى بحظر «التبنى» بوجه عام، ما يعنى سريان الشريعة الإسلامية على الطوائف المسيحية التى لا تقر شرائعها بهذا الحظر. هذا التضارب بين القانون والشريعة المسيحية هو فى الواقع تضارب بين شريعتين دينيتين، يظهر من خلال القانون، الذى تبنى إحداهما على حساب الأخرى. يبدو المشكل مركبًا، فهو لا يتعلق بازدواجية الشريعة مقابل القانون فحسب، بل أيضًا بازدواجية الشريعة مقابل الشريعة من خلال القانون. الأمر الذى يفتح النقاش على صعوبات التكيف- داخل السياق العربي- مع فكرة الدولة المدنية:

1ـ حضور تشريع دينى فى حد ذاته، يتناقض مع المبدأ الأول للدولة المدنية الحديثة وهو مبدأ «القانون» أى وضعانية التشريع وقابليته للتغير وفقًا لحاجات المجتمع المتجددة بالضرورة.

2ـ تبنى القانون لتشريع دينى على حساب الآخر. يتعارض مع المبدأ الثانى للدولة المدنية وهو مبدأ «المواطنة»، الذى يحظر التمييز بين المراكز القانونية للأفراد بسبب الدين، فضلًا عن مجافاته للمبدأ الأول ذاته.

ناقشت سابقًا كيف أن «الدولة» فى المطلق كيان علمانى بالطبيعة، بمعنى (أنه يصدر بالأساس عن غريزة السلطة التى لا تقبل الشراكة مع أى أيديولوجيا. تاريخيًا وبامتداد المراحل السابقة على الحداثة، كان الدين يزاحم الدولة على شراكة السلطة، لكنها ظلت قادرة دومًا على احتوائه داخل قوالبها الخاصة. أما الدولة الحديثة، وقد تشكلت فى صيغتها الأخيرة نتيجة لعملية صدام طويلة مع القوى والأفكار الدينية، فتبدو أكثر وضوحًا وحسما فى هذه النقطة، وتقدم نفسها من خلال القانون والمواطنة ككيان علمانى خالص وصريح).

-3-

لكن الموقف التشريعى يزداد تعقيدًا لسبب إضافى هو: النص فى صلب الدستور على أن «الإسلام دين الدولة»، وتطويره إلى أن «الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيس للتشريع».  لقد أدى هذا التطوير إلى نقل الازدواجية التشريعية إلى مستوى الدستور، الذى صار ينطوى على تناقض داخلى صريح.

بدأ ظهور النص بشقه الأول «الإسلام دين الدولة» فى دستور 1923 فى مصر، أى فى غضون مرحلة المد الأعلى للنظام الليبرالى المدنى، وتم تمريره دون اعتراض جدى من القوى العلمانية، بوصفه نصًا شكليًا لا يعنى أكثر من الإقرار بواقعة أن الإسلام هو دين الأغلبية من المصريين، أى دون أن يرتب أى التزام على التوجه التشريعى للدولة ذات البناء القانونى الوضعى. الدولة لا تصلى ولا تصوم، وعمليًا لا معنى لإسناد الدين إلى الدولة كشخص معنوى، إلا من خلال وجود نظام دينى موجه من قبل النصوص الفقهية على مستوى الأهداف والتنظيم التشريعى. الأمر الذى لم يكن مطروحًا فى مصر فى مطلع القرن الماضى حيث بلغت «الحالة المدنية» ذروتها. وبحسب المصادر، تم تمرير هذا النص إلى لجنة الدستور باقتراح عارض قدمه المفتى بإيعاز غير مباشر من البريطانيين، لمواجهة التصاعد المحتمل للأفكار الاشتراكية، التى تسربت إلى مصر عقب الثورة البلشفية، والتى أدت إلى إعلان الحزب الشيوعى المصرى سنة 1921.

لاحقًا، سيجرى استصحاب هذا النص، كلازمة شكلانية، فى الدساتير المصرية المتعاقبة: دستور 1930، ومشروع دستور 1954، ودستور 1956، وبعد اختفائه فى دستور الوحدة مع سورية 1958، عاد ليظهر فى دستور 1964، ودستور 1971. لكن المعنى ظل واضحًا وهو أن النص لا يشير إلى أى «تحول» فى التوجه المدنى للدولة، ولم يفهم كذلك قط فى السياق المصرى، إلا من قبل التيارات الأصولية، التى تفاقم حضورها بقيادة الإخوان فى أواخر القرن الماضى، والتى صارت تستخدم النص كشعار سياسى «شعبوى» بغرض التشويش على الدولة، خصوصًا بعد إضافة الشق الثانى: «الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع». 

-4-

ظهرت هذه الإضافة لأول مرة سنة 1980 ضمن التعديلات التى أدخلها السادات على دستور 1971، وتواصل حضورها فى الوثائق الدستورية اللاحقة طوال عهد مبارك، وما بعد 2011 حتى الآن. بحسب البعض كانت «الشريعة» مجرد وسيلة يستخدمها السادات لتمرير المواد الدستورية الخاصة بتمديد فترة الرئاسة، واعتبرها البعض نوعًا من المزايدة الشكلية على تيارات الإسلام السياسى الآخذة فى التصاعد حينذاك.

لكن بغض النظر عن الأهداف السياسية المباشرة، يلزم قراءة هذه الإضافة فى سياقها العام، كرد فعل لضغوط الحالة الأصولية، التى يسأل السادات جزئيًا عن استحضارها، والتى أسفرت عن تراجع نسبى فى زخم الحالة المدنية بعد أن بلغت ذروتها فى العهد الناصرى. لا أشير هنا إلى تحول جسيم فى وعى الدولة « بطبيعتها المدنية» رغم تأثرها بالضغوط، بل أشير إلى تحول نسبى فى وعى المجتمع، «بمكاسبه المدنية «بفعل الضغوط. ومع ذلك لا يمكن القول بحدوث تطور جذرى مضاد لفكرة الدولة المدنية الحديثة، ولا بتحول فكرة الشريعة إلى مطلب جماهيرى شعبوى كما يوحى الخطاب السياسى «للإخوان»، فقط يمكن الحديث عن تزايد نسبى لمساحة الأفكار الأصولية، ولإمكانية توظيفها سياسيًا.

عمليًا، لم يترتب على حضور نص الشريعة أى تغيير فى السلوك التشريعى للدولة، أعنى الفحوى الوضعى للقانون، وفيما ظل يستخدم من قبل التيار الإخوانى كشعار سياسى دائم. تفاقم الإحساس بعدم جدية الدولة فى التعاطى معه بمعناه الحرفى. وفى واقع الأمر يبدو النص مطاطًا وقابلًا للتأويل لصالح القانون، فكون الشريعة مصدر التشريع يعنى أن الشريعة هى مرجعية للقانون وليست هى القانون. يبقى القانون حاكمًا على الشريعة، بمعنى أن له أن يأخذ منها الأحكام التى تتوافق مع أصوله العامة، ولا يمكن الاعتداد بهذه الأحكام قبل أن تتخذ صيغة القانون بآلياته الإجرائية.

بهذا المعنى لا تنطوى إضافة الشريعة إلى نص « الإسلام دين الدولة» على أى جديد موضوعى، وتبقى مثل الشق الأول من النص، نوعًا من تقرير «الواقع» الذى يشير إلى وجود الشريعة الإسلامية بين المصادر المتعددة للقانون. وهذا هو المعنى «المفترض» لهذا النص فى ذهن دولة مدنية حديثة، تدرك التناقض الجوهرى بين فكرة القانون وفكرة الشريعة الدينية. مقابل المعنى «الحرفى» الذى يكمن كالعادة فى الذهن الأصولى. بهذا المعنى الحرفى يبدو نص الشريعة كجسم غريب داخل الدستور المدنى.

هذا التناقض الجوهرى، كما تدركه الدولة جيدًا، تدركه القوى الأصولية أيضًا بأطيافها المتعددة. لكن فيما تعبر التيارات المتشددة عن رفضها العلنى للدستور المدنى، يناور التيار الإخوانى البراجماتى بقبوله مرحليًا لتأجيل المواجهة الحاسمة مع الدولة.