رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

الازدواجية الثقافية فى الواقع العربى المعاصر -7

-1-

نظريًا، أقر حسن البنا بالإطار العام للنظام الدستورى النيابى، وزايد فى ذلك فاعتبره مستمدًا من قيم التراث الإسلامى. لكنه عاد فأبدى تحفظه على هذا النظام فى نسخته المصرية من زاويتين: 1- معارضة القانون للشريعة، 2- التعددية الحزبية. موضوع النقاش هنا هو الأداء السياسى لجماعة الإخوان قياسًا على هذا الموقف النظرى الذى أسسه حسن البنا تأسيسًا «شرعيًا». كيف تعاملت الجماعة، عبر المراحل السياسية المتعاقبة، مع مشكل الشريعة ومشكل الحزبية؟ وإلى أى مدى يكشف هذا الأداء عن الطابع «التلفيقي» للطرح النظرى، أعنى التناقض الجوهرى بين الفكر الإسلامى وفكرة الدولة المدنية؟

-2-

مشكل الشريعة: من «الحكم الإسلامي» إلى «الحاكمية الإلهية»

أعلن البنا أن الإخوان «لا يوافقون على هذا القانون أبدًا، ولا يرضونه بحال، وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامى العادل الفاضل». وأكدّ على ذلك فى « رسالة المؤتمر الخامس» بقوله « نحن لا نعترف بأى نظام حكومة لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية ولا بهذه الأشكال التقليدية التى أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامى بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على هذا الأساس»

مرحليًا، أظهر البنا حرص الجماعة على إنجاز هذه المهمة عن طريق الدعوة السلمية والعمل السياسى، لكنه لم يغلق الباب أمام إمكانية استخدام القوة لتحقيقها فى المستقبل، فأشار صراحة إلى « أن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدى غيرها، وحيث يثقون أنهم استكملوا عدة الإيمان والوحدة».  والى أنهم « لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامى قرآنى فهم جنوده، وإن لم يجدوا فالحكم من مناهجهم وسيعملون لاستخلاصه من أى كل حكومة لا تنفذ أوامر الله». 

وفقًا لهذا الطرح، يفهم البنا النظام الدستورى كإطار شكلى يرسم طريقة إدارة الحكومة لا مضمون الحكم. أو هو – فى عبارة أخرى- يقبل النظام الدستورى الحديث منفصلًا عن حمولته الموضوعية التى تعبر عن رؤية كلية شاملة لطبيعة الاجتماع ووظيفة الدولة. فإذا كانت الدولة الحديثة تقوم على القانون الوضعى فهذا مقبول، حسب البنا، فيما لم يرد بشأنه نص الهى ملزم. ومعنى ذلك أنه يتصور إمكانية الجمع بين القانون وشريعة دينية، أى إمكانية فرض قانون «نهائى ثابت» داخل إطار الدولة المدنية الحديثة. وهو تصور « مستحيل» بمقاييس هذه الدولة التى تقوم «جوهريًا» على علمانية القانون، أى على وضعية الفعل التشريعى، وقابليته الدائمة للتطور.

ووفقًا لهذا الطرح أيضًا، يباح استخدام القوة لفرض نظام بعينه من أنظمة الحكم، وهو بدوره تصور مناقض للمبادئ الدستورية الحديثة التى تشدد على فكرة التداول السلمى للسلطة. فى الوعى الدينى التقليدى، القضية الدينية قضية مبرهنة ذاتيًا. وبما هى كذلك يجوز فرضها على العالم فرضًا بقوة السلاح. نفسيًا يتأخر الوعى بالنفور الحداثى من العنف، بوصفه صادرًا عن إرادة الله.

لكن النزوع البراجماتى لدى البنا يفرض عليه الاستسلام لسلطة الدولة، والاكتفاء مرحليًا، بطلب تطبيق الشريعة، يشرح البنا: « القوة شعار الإسلام فى كل نظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادى فى وضوح وجلاء: « وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم» ( الأنفال:6). والنبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: « المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف». .. فالإخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء، ولابد أن يعملوا فى قوة. ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرًا وأبعد نظرًا أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر فلا يغوصون إلى أعماقها، ولا يزنوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها. فهم يعلمون أن اول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلى ذلك قوة الوحدة والترابط، ثم بعد ذلك قوة الساعد والسلاح. ولايصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعانى جميعًا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهى مفككة الأوصال مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك. هذه نظرة. ونظرة أخرى: هل أوصى الإسلام – والقوة شعاره- باستخدام القوة فى كل الظروف والأحوال؟ أم حدد لذلك حدودًا واشترط شروطًا ووجه القوة توجيهًا محدودًا؟ ونظرة ثالثة: هل تكون القوة أول علاج، أم إن آخر الدواء الكيّ؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة، وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟» ( رسالة البنا إلى المؤتمر الخامس للإخوان).

عمليًا، سينعكس هذا الطرح النفعى على الأداء السياسى للإخوان طوال عهد البنا وفى المراحل اللاحقة، حيث ستتحول مسألة «تطبيق الشريعة» إلى شعار سياسى قابل « للتأجيل» على الدوام من قبل الجماعة، وقابل للاحتواء على الدوام من قبل الأنظمة المتعاقبة التى تمثل الدولة المدنية. لقد أسفر التطور الحداثى عن تحولات واسعة فى نسق الوعى بالمسألة، وظهرت صعوبات حقيقية على أرض الواقع. وبوجه عام، كشفت هذه الوضعية عن الطابع « الجذري» للمشكل، الذى يشير إلى استحالة التوفيق بين الإسلام السياسى (بطبيعته الحصرية المؤبدة) وأطر الدولة المدنية ( بطبيعتها التعددية المتطورة)، حيث لم تعد المسألة تعنى مجرد استبدال تشريع بتشريع، بل استحداث تحولات هيكلية فى الأنساق الاجتماعية الاقتصادية والثقافية.

هل كان البنا ينكر وجود هذا التناقض، أم يتجاهله بفعل تكوينه البراجماتى المركب؟ كلا الاحتمالين يفسر الأداء الإخوانى الذى يتسم بالغموض والتردد حيال المسألة، قياسًا إلى أداء الجماعات السلفية الخالصة، التى تقف على الجوهر العلمانى للدولة الحديثة، وترفض وجودها من حيث المبدأ. وقياسًا إلى أداء القوى العلمانية الصريحة، التى تقف على الجوهر الشمولى الحصرى للإسلام السياسى، وتبدى تشككها فى مصداقية الدعاوى «السلمية» التى تطلقها جماعة الإخوان.

-3-

طوال عهد البنا- حيث وفرت الأجواء شبه الليبرالية هامشًا واسعًا أمام الإخوان لممارسة السياسة – كانت قضية الشريعة مطروحة كمشكل جزئى قابل للحل فى إطار الدولة المدنية القائمة. ورغم هذا الحديث عن إقامة «الحكم الإسلامي» كان التصور هو أن هذا الهدف يمكن تحقيقه عن طريق إدخال تعديلات تفصيلية على القانون المدنى والجنائى.

لكن وجه المسألة سيتغير على نحو جذرى فى المراحل اللاحقة، حيث ستتعرض الجماعة لموجات متعاقبة من الحظر والقمع، أو الحضور المقيد بدرجات محسوبة، الأمر الذى سيسفر عن تصعيد جديد فى بنية الحركة الأصولية ( الجيل الثانى من جماعات الإسلام السياسى الأعمق سلفيًا والأكثر عنفًا). فى سياقات الصدام القمعى مع النظام الناصرى سيتكلم سيد قطب عن التناقض «الكلى والمبدئي» للإسلام، لا مع الدولة فحسب بل أيضًا المجتمع الخاضع لها. لم تعد المسألة المطروحة هى تغيير القوانين المطبقة من قبل الدولة على المجتمع، بل تغيير وضعية الدولة والمجتمع معًا من حالة «الجاهلية» إلى حاكمية الله الشاملة، التى لا تقتصر على أحكام الشريعة التفصيلية. تغير عنوان المشكل من مصطلح «الحكم الإسلامي» إلى «حاكمية الله».  قبل الوصول إلى حالة الخضوع الكلى للحاكمية الإلهية لا معنى للحديث عن تطبيق الشريعة. ولذلك اعتبر سيد قطب أن الإسلاميين « وقعوا فى مناورة خبيثة من الجاهلية دفعتهم إلى إحراج الإسلام عندما حاولوا تقديم شرائعه فى غير بيئته»، وأن من «السخرية الهازلة العمل على ما يسمى تطوير الفقه الإسلامى فى مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله»

فى نهاية التحليل هذا طرح « تأجيلي» لمشكل الشريعة، ومن هذه الزاوية يشبه الفكر الإخوانى التقليدى. لكنه خلافًا لهذا الفكر الأخير، يعترف بالتناقض الكلى بين الشريعة والواقع الحداثى فى الدولة والمجتمع، ومن هذه الزاوية يلتقى مع الفكر الوضعى الحديث، لكنه خلافًا للفكر الوضعى، لا يشَّخص المشكل على أنه مواجهة بين تشريع قديم جامد وقانون التطور الطبيعى، بحيث يلزم تطويع التشريع لحركة التطور الضرورية، بل يشخص المشكل على أنه انحراف من قبل الواقع الحداثى عن القانون الإلهى الأزلى والمؤبد، بحيث يلزم تطويع الواقع للقانون.

لكن، هل يمكن تطويع الواقع عكس اتجاه التطور؟ أو بصيغة أخرى هل يمكن القفز على «ضرورية الواقع» وأسبقيته الفعلية على أى مطلوب نظرى مهما كان منسوبًا إلى الدين؟ هذا هو السؤال المعضل الذى يطرحه الوعى الحداثى على القاعدة الدينية الشائعة التى تتحدث عن «شريعة صالحة لكل زمان ومكان».  على ضوء السؤال تبدو القاعدة متناقضة «ذاتيًا»، بما أن الشريعة أحكام قانونية «ثابتة» تنظم وقائع تفصيلية « متغيرة» بضرورة التنوع، وضرورة التطور.

على نحو لا شعورى، لا يكاد العقل الأصولى يقر بأهمية «الواقع» قياسًا إلى «خطاب» اللاهوت أو الفقه المكتوب. وعند التعارض يذهب الذهن مباشرة إلى حل وحيد هو تغيير الواقع: على الواقع أن يتغير « الآن» لكى يصبح متوافقًا مع الفقه ( وهذا موقف الطرح الأصولى فى نسخته السلفية الأكثر تطرفًا، والتى تصر على التطبيق الفورى للشريعة بصرف النظر عن درجة تصادمها مع السياقات الظرفية المزامنة). أو علينا أن ننتظر الواقع حتى يتغير فى المستقبل لكى يتوافق مع الفقه ( وهذا موقف الطرح الأصولى فى نسخته الإخوانية المهجنة، وحتى فى نسخته القطبية المتطرفة).

لكن، من الواضح هنا أيضًا ان قاعدة « التشريع الصالح لكل زمان ومكان» لا تزال تناقض الموقف التأجيلى من أساسه. فهذا الموقف يقوم على فكرة تأخير الشريعة لحين تمهيد الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الملائمة لتطبيقها، الأمر الذى يعنى الإقرار بعدم ملاءمة الشريعة للتعامل مع هذه الظروف فى سياق زمانى أو مكانى بعينه. وهذا بعينه هو فعل قانون التطور.

بوجه عام، يتجاهل الموقف الأصولى برمته تحولات الوعى الحداثى، التى لم تغير طريقة التفكير فى مفردات «المسألة» الدينية فحسب، بل غيرت أصلا من موقع المسألة بين «مشاغل» الوعى.

يتبع...