رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

الازدواجية الثقافية فى الواقع العربى المعاصر-3

-1-

لم يؤد التحول الحداثى فى مصر إلى نقلة مجتمعية كاملة، لكنه لم يكن تحولًا هامشيًا عارضًا كما يروج فى التحليلات الغربية المعاصرة، التى تذهب إلى أن العمليات التحديثية الجارية حول العالم، لم تنتج -خارج أوربا- أكثر من نخب فكرية متعلمنة ذات تأثير شعبى محدود. أهم ما أنتجته الحداثة فى مصر هو الانتقال إلى نموذج «الدولة المدنية» التى تقوم على القانون وليس الفقه. كان هذا الانتقال فى حد ذاته انقلابًا حداثيًا جسيمًا بالقياس إلى لحظته الثقافية الخاضعة كليًا لنظام تراثى دينى. ومع تطور بناء الدولة وتبنيها لعملية التحديث، ظهرت النخبة التجديدية، وتعززت فكرة «القانون» وفكرة «المواطنة» وتشكلت بالتدريج ملامح «الحالة المدنية» التى صارت تشير إلى تحول مجتمعى واسع النطاق على المستوى السياسى والاجتماعى والثقافى.

وكما ناقشت سابقًا، جرى هذا التشكل فى حينه بسلاسة نسبية، تكشف عن هشاشة النظام التراثى المتقادم وسهولة اختراقه، خصوصًا من نقطة ضعفه المباشرة وهى نقطة الدولة. وتكشف فى الوقت نفسه عن درجة نضوج نسبى فى جاهزية النظام الاجتماعى لاستقبال التغيير. قياسًا بالحالة التركية التى أنشأها أتاتورك فى بداية القرن الماضى، لم تعتمد العملية التحديثية بالأساس على آليات قانونية أو إدارية مباشرة. وباستثناء إجراءات التجنيد الإجبارى المبكرة، التى فرضها محمد على لتكوين جيش حديث مكون من عناصر مصرية، سارت عملية التحديث عبر التسرب التدريجى البطيء، خصوصًا فى شقها الاجتماعى. الذى شهد تحولًا صريحًا فى أشكال المظهر الشخصى ووضعية المرأة (قارن كنموذج بين الحالتين المصرية والتركية فيما يتعلق بآليات الترويج لنزع الحجاب).

كان ظهور النخبة العلمانية لاحقًا على ظهور الدولة، واشترك كلاهما فى تسريب المفاهيم الدينية وتعميمها على نطاق شعبى أوسع، أى فى تحويلها إلى ثقافة «موازية» لثقافة التراث الأصلية التى ظلت قائمة. صحيح أن هذه النخبة ظلت تمثل تيارًا ثقافيًا متمايزًا، أكثر وعيًا بتكوينه المدنى قياسًا إلى المجتمع، لكن بهذا المعنى نفسه سيصبح التيار الأصولى الذى سيظهر لاحقًا «نخبة» تراثية مقابلة، أكثر وعيًا بتكوينها السلفى قياسًا إلى المجتمع أيضًا. أما المجتمع نفسه فصار يتحول إلى الازدواجية الثقافية وظل هدفًا للنخبتين.

-2-

ظهر التيار الأصولى كرد فعل دفاعى من قبل النظام التراثى على العملية التحديثية. واستغرق هذا الرد مدة تزيد على قرن من الزمان، هى الفترة ما بين ظهور الواقعة الحداثية الأولى وهى الدولة المدنية، وظهور الصيغة الأصولية المباشرة ذات البعد السياسى وهى جماعة الإخوان المسلمين. فى غضون هذه الفترة، لم تبد القوى التراثية التقليدية التى يمثلها الأزهر معارضة جدية حيال حدث «الدولة»، الذى كان يجرى بإيقاع تدريجى هادئ.

لكن النظام التراثى سيشرع فى إفراز تيار سلفى من خارج الإطار التقليدى، وسوف يتبلور هذا التيار على وقع الجدل الفكرى مع التيار المدنى المتفاقم، خصوصًا بعد وقوع الانفجار الحداثى الصاخب المتمثل فى إلغاء «الخلافة» رسميًا فى تركيا، وهو الحدث الذى أدى إلى تقليب فكرة الخلافة. وتنبيه الوعى التراثى الناشئ إلى إعادة التفكير فى واقعة الدولة المدنية وفقًا لمعايير المدونة الفقهية، ومن ثم إلى وضع التيار السلفى على مساره السياسى المعروف. فى سياق الجدل الفكرى تخلقت حالة سلفية واعية بذاتها كطرف مقابل للخصم الحداثى، الذى صار يشير أساسًا إلى الدولة، وبالنتيجة، تحول النظام التراثى من إطار تقليدى قديم ومأزوم حيال الحداثة إلى فكرة أيديولوجية طازجة ذات بعد سياسى صريح. بالتوازى مع هذا الجدل الفكرى، ساعدت التطورات السياسية المتشابكة داخليًا ودوليًا على تصعيد الفكرة السلفية وتحويلها من تيار ثقافى نظرى إلى حركة سياسية اجتماعية منظمة تعمل على العمق الشعبي:

1-   عند ثلاثينيات القرن الماضى، وضمن عدد من «الجمعيات» ذات الطابع الخيرى، تم تمرير جماعة الإخوان المسلمين تحت نظر الدولة المصرية والاحتلال البريطانى، بغرض توظيفها سياسيًا من قبل الطرفين لاحتواء الأفكار الشيوعية الآخذة فى الانتشار، وللتشويش على فكرة المقاومة التى كانت تتفاقم ضد الاحتلال تحت راية «وطنية» صريحة. لكن الدولة ستعود للاصطدام بالجماعة بعد أن كشفت عن أهدافها كمنظمة أصولية سياسية ذات بناء تنظيمى هرمى وجناح عسكرى سرى، يسعى إلى استعادة «الخلافة» وهدم فكرة «الدولة الوطنية». وحتى نهاية العهد الناصرى كانت الدولة قد استطاعت احتواء النشاط «الحركي» للجماعة بآليات قمعية صريحة، وبدا وكأن الفكرة الأصولية قد تم استيعابها فى إطار الحالة المدنية التى تحرسها الدولة.

كان حضور جماعة الإخوان قد رفع من إيقاع التوتر السياسى والثقافى. لكن «الحالة المدنية» ظلت عند معدلاتها الثابتة إجمالًا، على مستوى الدولة والمجتمع: الجماعة المنغمسة كليًا فى الغرض السياسى، والتى فشلت فى اختراق الدولة، لم تدخل على المستوى الشعبى فى مواجهة مع مظاهر الحداثة الاجتماعية، ولم تشتبك «جديًا» مع المجتمع حول قضايا من نوع الفن والموسيقا، وحرية المرأة، والاختلاط، والحجاب، ولحية الرجل (وهى القضايا التى سيعاد طرحها لاحقًا من قبل التشكيلات الأصولية الجديدة، المتفرعة عن جماعة الإخوان بعد تطعيمها بالأفكار الوهابية).

2-   قبل نهاية السبعينيات، ستؤدى التطورات السياسية المتشابكة داخليًا ودوليًا، إلى تصعيد «جديد» للفكرة الأصولية باتجاه التشدد والعنف فقهيًا وحركيًا. وهو التصعيد الذى سيؤدى -هذه المرة- إلى تراجع نسبى للحالة المدنية على المستوى المجتمعى الشعبى، وبدرجةٍ ما على مستوى الدولة.

على المستوى الشعبي؛ يمكن رصد ظاهرة انتشار الحجاب، فى ظل تراجع واضح لوضعية المرأة، يشمل حقها المكتسب فى التعبير والعمل والانتقال واختيار الزى. وظاهرة التحول على مستوى الرجل، إلى ارتداء الملابس الريفية التقليدية، أو المنقولة عن سياقات اجتماعية مجاورة، ضمن مظاهر تدين «شكلية» متعددة فى لغة الخطاب وعلاقات الأفراد. لم تعد هذه المظاهر تمارس كجزء من العرف الاجتماعى الموروث، بل كرمز أيديولوجى محمل بزخم سياسى. كما يمكن رصد التحول السلبى فى طريقة النظر إلى الفن والفكر والثقافة، وانكماش مساحة «الرأي» المسموح به فى المسائل «الدينية» فى ظل تصاعد ظاهر «للطبقة الفقهية الرسمية»، التى صارت تتقمص دور الكهنوت الحارس للدين. بوجه عام يمكن الحديث عن اهتزاز نسبي- لكن واضح- لدى الوعى العام حول المفاهيم المدنية الأساسية: المواطنة، والتعددية، والقانون.

أما على مستوى الدولة، فيمكن رصد الاستجابة المتزايدة للضغوط الأصولية. تبدو الدولة وكأنها تخففت جزئيًا من دورها التجديدى المجتمعى المعتاد، فى خضم انشغالها بالمواجهة الأًصولية السياسية. بوجه عام، لم يؤد التصعيد الأصولى إلى ضرب الحالة المدنية فى ركنها الأساسى وهو الدولة الوطنية. لا تزال هذه الدولة قادرة على احتواء الأصولية فى شقها السياسى، وهو يتراجع الآن بعد لحظة الانتصار الخاطفة، التى ركب فيها موجة التذمر السياسى والاقتصادى السارية فى الحقبة الأخيرة.

3- فى تفسير التراجع «الشعبي» للحالة المدنية بدءًا من منتصف السبعينيات سأشير إلى متغيرين بارزين ساعد كلاهما على تمديد الفكرة السلفية وتعزيز حضورها داخل المجتمع:

1-   التيار الأصولى، الذى ضُيق عليه الخناق سياسيًا، والذى صار أكثر حساسية حيال التجديد، توقف مؤقتًا عند منازلة الدولة، وصار يدخل فى مواجهة مع الجانب الشعبى المجتمعى للحداثة. لا يعنى ذلك أنه أصبح أقل تسيسًا، بل أكثر تنبهًا لأهمية الشارع، وأكثر اشتغالًا على الجانب الفقهى (جانب الفروع التكليفية ذات الطابع الشكلانى الفردي). تشكلت هذه النقلة تدريجيًا مع الاحتكاك الإخوانى الوهابى المبكر، والذى أفرز مزيجًا أصوليًا يجمع بين الحيوية الحركية ونقلية الفقه. (لاحقًا سيسفر هذا الاحتكاك عن توليد الجيل الأصولى الثالث الذى سيوسع دائرة التطرف والعنف ضد الدولة تحت مسمى الجهاد).

2-   أدى تواصل المد الأًصولى إلى استفزاز الروح السلفى لدى القوى التراثية التقليدية التى يمثلها الأزهر، والتى صارت أكثر وعيًا بتكوينها التراثى الأصولى، وأكثر اندفاعًا لاستغلال الحالة السلفية الجارية وتوظيفها فى استعادة نفوذها «المعنوي» الذى ظل يتناقص منذ ظهور الدولة الوطنية. (ظهر ذلك بشكل واضح فى سياقات الاهتزاز السياسى الذى أصاب الدولة لبرهة خاطفة عقب سقوط نظام مبارك).

بعيدًا عن السياسة المباشرة، ومن موقف مناقض للأصولية الحركية، صار الأزهر أكثر حضورًا على المستوى الاجتماعى، وتجاوز صلاحياته «التعليمية» المحددة بحكم القانون، ليفرض نفسه كسلطة توجيهية فوق إفتائية، موجهة مباشرة إلى الجمهور (راجع مثلًا مداخلات الأزهر المتأخرة ذات النبرة الآمرة حول مسألة الحجاب، وحجره على حرية الرأى فى مسائل خلافية نظرية مثل مسألة الاسراء والمعراج). وهى سلطة لا تتوافق عمليًا مع القانون، بوصفه مصدر التوجيه الحصرى فى الدولة «المدنية».

وبالنتيجة، لم تعد الفكرة التراثية «الواعية» حكرًا على التيار الأصولى السياسى، بل صارت تحظى برعاية علنية من قبل: المؤسسة الدينية الرسمية المحسوبة على الدولة، وصارت الدولة، المنشغلة بمواجهة الأصولية السياسية، تتساهل حيال التجاوز على سلطة القانون. وهو مؤشر «خطير» على تراجع الحالة المدنية.

يتبع