رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

الازدواجية الثقافية فى الوعى العربى المعاصر -2

ثمة اتفاق على تراجع «الحالة المدنية» التى تشكلت فى مصر والمنطقة العربية على مدى قرنين من الزمان، السؤال المطروح هو: إلى أى مدى تتراجع هذه الحالة الآن قياسًا إلى لحظة المد الأعلى التى بلغتها قبل منتصف القرن الماضي؟ هل ينبئ هذا التراجع عن هزيمة حاسمة للعلمانية، ونكوص نهائى إلى الحالة التراثية، كما يأمل التيار الأصولي؟ أم يشير إلى مجرد انقطاع وقتى أو تباطؤ نسبى فى مسار التطور الضرورى، كما يتصور التيار المدني؟

يميل التحليل السائد إلى التقليل أصلًا من قيمة التحول الحداثي؛ فهذا التحول لم ينتج أكثر من ثقافة نخبوية محدودة، لا تعكس التوجهات العامة للمجتمع، الذى ظل يقوم على قاعدة تراثية خالصة. أبدى النظام التراثى ردَّ فعل قويًا على الحداثة من خلال إفرازه للحركة الأصولية، وظل يحافظ على مؤسساته البنيوية القائمة كالأزهر، الذى يعيد تكريس حضوره كقوة سلفية واعية. وفوق ذلك، ظل النظام التراثى حاضرًا كرافد أول لثقافة الجمهور العام، وحتى كخلفية مضمرة لثقافة النخب المتعلمنة ذاتها.

يحظى هذا التحليل بقبول عام لدى التيار الأصولى، الذى يراهن سياسيًا على إسلامية الشارع. وهو التحليل الأكثر شيوعًا فى دراسات الاجتماع السياسى الغربية المعاصرة، التى تناقش واقعة «التراجع العلماني» كظاهرة عالمية متكررة، وتتوقف على نحو خاص أمام تمثلاتها الزاعقة فى السياق العربى الإسلامى، كنموذج بارز لهذه الدراسات، يذهب بيتر بيرجر فى كتابه «نزع العلمنة عن العالم» 1999، إلى أن التصاعد الأصولى العالمى « يقدم أدلة على زيف فكرة الربط بين التحديث والعلمنة، أو هو يظهر على الأقل أن مكافحة العلمنة ظاهرة لا تقل أهمية عن العلمنة نفسها فى عالمنا المعاصر».

يروج بيرجر لفكرة أن الثقافة العلمانية لم تلعب دورًا تغييريًا واسعًا حول العالم، بوصفها ثقافة «أوروبية محلية» وأنها ظلت تمثل خارج الغرب الضيق، الاستثناء وليس القاعدة، ومن ثم فهى ليست النموذج الحتمى ولا حتى الضرورى للتطور. ويؤكد بيرجر أن هذه الثقافة -باستثناء أوروبا- ظلت منحصرة فى وجود «شبكة فرعية دولية مكونة من مجموعات تلقت تعليمًا غربيًا فى مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية»، وأن هذه الشبكة نفسها أعيد اختراقها من قبل الحركة الأصولية،» فالصحوة الإسلامية مثلًا لم تكن محصورة فى الشرائح الاجتماعية «الأقل حداثة» أو «الأكثر تخلفًا» كما يحب أن يعتقد المفكرون التقدميون، بل هى على العكس قوية للغاية فى مدن تشهد قدرًا كبيرًا من التحديث، وفى عدد من البلدان تظهر بشكل أوضح بين أفراد تلقوا تعليمًا غربى الأسلوب. فى مصر وتركيا مثلًا يمكن أن تجد الحجاب فى أسر علمانية، بالإضافية إلى مظاهر أخرى للحشمة الإسلامية».

فى هذا السياق، يشير بيرجر إلى الأصولية الإسلامية بوصفها النموذج التراثى الأكثر تشددًا حيال الحداثة وبالمقارنة بينها وبين الأصولية الإنجيلية (البروتستانتية)،» تبدو الأخيرة حداثية بشكل إيجابى فى معظم الأماكن خصوصًا فى أمريكا اللاتينية». ويُرجع ذلك إلى طبيعة الإسلام كدين يصعب التوفيق بينه وبين الأفكار والمؤسسات الحداثية «مثل الديموقراطية، واقتصاد السوق، ودور المرأة فى المجتمع، والحدود بين التسامح الدينى والتسامح الأخلاقي». ومن خلال هذا التسبيب يؤكد بيرجر أولوية التفسير الثقافى الدينى لتراجع العلمانية فى السياق الإسلامى، «فالصحوة الإسلامية معروفة بتعقيداتها السياسية الواضحة والمباشرة، لكن من الخطأ اختزالها تفسيريًا كمجرد رد فعل لعوامل سياسية بحتة».

-2-

أتوافق، بالطبع، مع طرح بيرجر حول هذا التسبيب الأخير، فالأصولية الإسلامية، رغم أبعادها السياسية المعصرنة، لا يمكن فهمها بمعزل عن المدونة الفقه نصوصية الموروثة التى تتحدث باسمها، فهى فى الواقع ( إفراز ضرورى لهذه المدونة التاريخية ذات الطابع الحصرى الجامد. لكنى سأختلف مع مجمل هذا الطرح حول علاقة الحداثة بالعلمنة، وبثقافة النخبة، خصوصًا فيما يتعلق بالسياق العربى الإسلامي؛ تاريخيًا، تشكل «مفهوم» الحداثة فى الغرب بعد عصر النهضة على وقع الصدام مع «النظام الديني» المهيمن بالذات، وقام لذلك على قاعدتين أساسيتين: العلم، والعلمانية، وهذا هو المعنى الضيق لمصطلح الحداثة. كان إقرار العلم يهدف إلى كسر احتكار اللاهوت لسلطة المعرفة خصوصًا فى مجال الطبيعة، وإقرار العلمانية يهدف إلى تجريد اللاهوت من سلطة التنظيم السياسى التشريعى داخل الدولة، وهذا هو المعنى الضيق لمصطلح العلمانية. بالمعنى الضيق للمصطلحين لا مجال لفصل التحديث عن العلمنة لأن العلمنة شرط التحديث. ولم يحدث هذا الفصل على أرض الواقع لا فى الغرب الجغرافى، ولا فى المناطق الثقافية الأخرى التى اخترقتها الحداثة حول العالم.

التراجع الحداثى الذى يناقشه بيرجر والفكر الغربى لم يشمل العلمانية بالمعنى الضيق الذى يشير إلى «الدولة المدنية». فقط شمل العلمانية بالمعنى الواسع الذى يتحفظ على الدين فى ذاته كمنظومة كلية فى التفكير والسلوك والتوجه الأخلاقى الروحى، وهو المعنى الذى روج له الفكر التنويرى المبكر فى خضم صراعه مع اللاهوت، لقد تراجعت جاذبية الحداثة بالفعل على امتداد القرن العشرين، بعد ظهور التيارات «ما بعد الحداثية»، التى وجهت إليها سهام النقد من جهة بنائها النظرى، وأدائها السياسى والاقتصادى والأخلاقى المحبط سواء فى شقها الرأسمالى أو الاشتراكى. وظهر هذا التراجع فى ظل بقاء الدين واستقراره على المستوى الشعبى خلافًا للنبوءات التنويرية التى توقعت زواله مع تواصل تقدم العلم، وفى ظل تصاعد الحركات الأصولية وتمددها عبر العالم فيما صار يشار إليه فى الغرب بظاهرة عودة المقدس.

لكن فيما كانت جاذبية الحداثة تتراجع نظريًا على نطاق واسع، لم تتراجع جاذبية «الدولة الوطنية» بطابعها المدنى الذى يستبعد اللاهوت من دائرة القانون، فقد تواصل حضور هذه الدولة على أرض الواقع كنموذج وحيد للدولة «الحديثة». ولا ينطبق ذلك على السياق الغربى المسيحى الذى يتسع لاهوتيًا لفصل الدين عن الدولة، فحسب، بل أيضَا على السياق العربى الإسلامى الذى درج فقهيًا وتاريخيًا على ربط الدولة بالدين.

فى الحالة المصرية -كنموذج- ثَبتت «الدولة الوطنية» حضورها بشكل راسخ منذ تشكلها فى غضون القرن التاسع عشر، واشتغالها مبكرًا على قيادة عملية التحديث. وفيما نجحت فى إحراز نجاح جزئى وإنتاج تراكم مدنى ملموس هو ما أسمية «بالحالة المدنية»، استطاعت التكيف مع ثقافة التراث التى ظلت حاضرة فى المجتمع. ولا تزال هذه الدولة قادرة بشكل ما، على احتواء حركات الارتداد الأصولية التى صارت تستهدف مدنية الدولة. وحتى عندما وصلت هذه الحركات مؤخرًا إلى السلطة، لم تستطع إنهاء صيغة الدولة المدنية.

وهذا مؤشر على أن فكرة الدولة المدنية بإطارها الوطنى القانونى صارت جزءًا من صلب الثقافة « العامة» المحلية مثلما هى فى ثقافة الاجتماع السياسى المعاصرة حول العالم، وليس فقط فى ثقافة النخب الفكرية المتعلمنة. صحيح أن هذه الدولة لم تستكمل بعد معايير الأداء الموضوعية التى تطلبها الحداثة السياسية، لكن ذلك يرجع «جزئيًا» إلى المعوق التراثى ذاته، الذى يعود إلى التفاقم الآن بسبب الحركة الأصولية.