د. محمد سعيد رسلان يكتب: رَمَضَانُ دَعْوَةٌ لِلْوَحْدَةِ وَالِائْتِلَافِ
هذه مُنَاسَبَةٌ مِنَ الْمُنَاسَبَاتِ الَّتِى جَعَلَ اللهُ فِيهَا مِنَ الْفَضْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ وَمِنَ الْخَيْرِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ مَشْهُودٌ؛ هَذَا الشَّهْرُ الَّذِى فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ رَبُّهُمْ صِيَامَهُ.
هَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ الَّتِى كَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ ظَرْفًا لِنُزُولِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِيهَا، فَشَرَّفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ، وَجَعَلَ هَذَا الشَّهْرَ مُبَارَكًا أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ.
وَجَعَلَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ الْعُلَى، وَجَعَلَ اللهُ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ مُتَنَزَّلًا وَمُتَفَجِّرًا مِنَ الْأَرْضِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يَعْرِفُ مَدَاهُ إِلَّا الَّذِى أَعْطَاهُ.
هَذَا الشَّهْرُ الَّذِى هُوَ تَوْحِيدٌ ظَاهِرٌ لِلْأُمَّةِ بِمَسِّ جُوعٍ وَعَطَشٍ فِيهَا، وَإِقْبَالٍ بِالْغَرِيزَةِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الرِّيِّ، وَالْأَكْلِ بَعْدَ طُولِ السَّغَبِ وَالنَّصَبِ وَالتَّعَبِ.
جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْأَمْرَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ ظَاهِرًا مُؤَدِّيًا إِلَى ائْتِلَافِهِمْ، وَإِلَى اجْتِمَاعِ شَمْلِهِمْ، وَإِلَى تَرَاحُمِهِمْ، وَإِزَالَةِ مَا بَيْنَهُمْ مِمَّا عَلَقَ بِقُلُوبِهِمْ مِنْ شَوَائِبِهِمْ وَأَحْقَادِهِمْ وَأَحْسَادِهِمْ، وَمَا يَتَأَتَّى إِلَى الْقُلُوبِ مِنْ أُمُورِ الْغِلِّ وَمَا يَشُوبُهَا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الَّتِى لَا تَسُرُّ وَإِنَّمَا تَضُرُّ.
جَعَلَ اللهُ هَذَا الشَّهْرَ مَدْعَاةً لِذَلِكَ، فَهُوَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَا أَمْرٌ كَوْنِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ -ضَرْبَةَ لَازِبٍ- لَكَانَ، وَلَكِنْ هُوَ أَمَرَ بِذَلِكَ، فَمِنْهُمُ الطَّائِعُ وَمِنْهُمُ الْعَاصِي، وَلَا
جَعَلَ اللهُ الشَّهْرَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَعَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى الْوَحْدَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، حَتَّى فِى أَصْلِ الْجُوعِ بَعْدَ نَفْيِ الشِّبَعِ، وَبَعْدَ نَفْيِ الرِّيِّ، وَبَعْدَ التَّخَلِّى عَنْ مَظَاهِرَ آتَاهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَنْ أَرَادَ مِنْ عِبَادَةٍ؛ تَمَلُّكًا وَقُدْرَةً.
ثُمَّ يَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ مُرْتَبِطًا بِأَذَانٍ وَاحِدٍ بَدْءًا وَمُنْتَهًى، وَبِقِيَامٍ وَاحِدٍ فِى مَسَاجِدِ اللهِ.
جَعَلَ اللهُ الشَّهْرَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ وَعَلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ مَدْعَاةً لِلْأُخُوَّةِ فِى أَجْلَى مَجَالِيهَا، وَمَدْعَاةً لِلتَّوَحُّدِ عَلَى أَعْمَقِ صُوَرِهِ وَأَصْفَاهَا.
وَالرَّسُولُ لَمْ يَأْتِ بِشَرْعٍ يُفَرِّقُ النَّاسَ، وَإِنَّمَا أَتَى الرَّسُولُ (ص) بِمَا يُوَحِّدُ الْأُمَّةَ، وَيَجْعَلُهَا جَسَدًا وَاحِدًا، نَابِضًا بِقَلْبٍ وَاحِدٍ، مُتَحَرِّكًا بِحَيَاةٍ وَاحِدَةٍ، يَتَأَلَّمُ الْأَلَمَ كُلَّهُ إِذَا مَا أُصِيبَ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ.
كَذَلِكَ جَاءَ مُحَمَّدٌ دَاعِيَةَ ائْتِلَافٍ لَا دَاعِيَةَ اخْتِلَافٍ.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.