رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

عطر الأحباب

 

 

قلائل فى تاريخ السينما العالمية، وليس المصرية وحدها، من يتمتعون بقدرة محمود المليجى «1910-1983» على التفاعل الحميم الدافىء مع مشاهديه، وبراعته فى زراعة الشعور بالقوة والتحقق، فلا بد أن الكاميرا كانت تحبه وتسعد برؤياه وتهلل.

فى أفلامه جميعا، الجيد منها والرديء، يبدو المليجى مثل لاعب محترف خارق الموهبة فى فريق قوامه من الهواة وأنصاف الموهوبين، لكنه لا يقصر فى عمله، ولا يشعر بالغبن والمرارة لازدحام الملعب بالمتعثرين الذين لا يتقنون اللعب ولا يحبونه. يؤدى واجبه كاملا حتى تنتهى المباراة، وما أكثر الهزائم الفنية الفادحة فى عدد غير قليل من الأفلام التى يشارك فيها، لكن أحدا من المشاهين لا يفكر فى مسئوليته عن الهزيمة، فهو الضحية وليس الجاني. قد يُلام لأنه يهدر موهبته الاستثنائية فى الغث التافه المسيء من الأدوار، ولا شك أنه يرد بطريقته فيقول: إننى محترف لا غنى لى عن العمل.

نصف قرن من العمل الدءوب المتصل، يثمر مئات الثمار الشهية المتنوعة فى المسرح والإذاعة والتليفزيون، وتبقى أعماله السينمائية هى العلامة الأهم والأكثر تميزا وتفردا فى رحلته. يقولون إنه شرير السينما الأول، وهى مقولة شائعة مغلوطة، تغفل أدواره التى تقف خارج دائرة الشر: الضابط، محقق شركة التأمين، رجل الأعمال، المدرس، الطبيب النفسي، الفنان التشكيلي، فضلاً عن أنه الفلاح الأعظم فى تاريخ السينما المصرية: محمد أبو سويلم.

فى عالم الشر نفسه، لا يمكن تصنيف المليجى فى الإطار النمطى المكرر، فهو لا يعرف اللوازم الماسخة التى يدمنها غيره، وينوع تاركا بصمته. المرعب الشرير مدمن الأفيون والعنف فى «الوحش»، يختلف عن زعيم العصابة ذى الوجهين المتناقضين فى «بطل للنهاية»، ولا صلة بين الدورين وتجسيده العبقرى للشر المطلق فى «موعد مع إبليس».

أعظم ما فى المليجى بساطته وتلقائيته وقدرته الفريدة فى الاندماج المحسوب المقنع، وسلاسة وصدق وعمق الإحساس بأبعاد وطبيعة الشخصية التى يجسدها. المصابون بالأنيميا الحادة فى الموهبة هم من يتشنجون ويصرخون ويتسولون الإقناع المستحيل، أما الأصحاء الأقوياء مثله فلا شبهة تصنع زاعق وادعاء مصنوعًا فى أدائهم، فهم يمثلون كأنهم لا يمثلون.

أفلام المليجى مع يوسف شاهين مرحلة مختلفة فى مسيرته، فعلى مشارف عامه الستين يلتقى الممثل العملاق مع المخرج الذى لا يشبه غيره فى «الأرض»، ويحلقان معا بعيدا عن السائد المألوف المدمر فى السينما المصرية الغارقة فى مستنقع الرؤى الراكدة، ويستمر التعاون بينهما لأكثر من عشر سنوات، يقدمان خلالها «الاختيار» و»العصفور» و»عودة الابن الضال» و»إسكندرية ليه» و»حدوتة مصرية». أدواره هذه ترشحه عن جدارة للفوز بكل الجوائز العالمية فى التمثيل، ذلك أنه يعانق الإعجاز الفنى الخارق الذى لا يصل إليه إلا أولو العزم من عتاة عباقرة التمثيل.

تتوافق طريقة إسدال الستار على حياة المليجى مع مسيرته الثرية وإبداعه غير التقليدي، فالموت مباغت بسيط عفوى تلقائي، يخلو من العذاب والمعاناة وبشاعة الاحتضار الطويل الذى يرهق الميت والمحيطين به. يثير موته فى أعماق المتابعين للمشهد الأخير القصير شعورا قديما مكررا يقترن بالأداء المذهل للرجل، كأنه يأبى أن يموت كالعاديين من الناس. عاش عمره يمثل كأنه لا يمثل، ومات أيضا فى المنطقة الغائمة المراوغة التى تقع بين التمثيل واللا تمثيل؛ بين استمرار الحياة والإيهام بمغادرة الحياة.

بعد كل هذه السنوات من الغياب، لا شعور بموته فى ظل الحضور الطاغى الذى لا يتبخر. هيهات أن يمر يوم إلا ويلتقى به محبوه، ويستمدون فى حضرته زادا روحيا لا ينضب. يستمعون إلى همساته من عالم الغيب: المجد والخلود للجادين والموهوبين.