عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

علشانك يا مصر

 

 

هل كان الشاعر الكبير عماد أبوصالح نائمًا عندما قامت الثورة..؟!

ألم ينفجر بكاءً وحرقة على وطن كاد أن يضيع وسط توريث للحكم وتوريث للمهن.. حتى وصل الأمر أن يرث حامل دبلوم التجارة أباه فى القانون، لأن أباه أستاذ فى القانون..؟

ألم يصرخ عماد أبوصالح كما صرخت بأعلى صوتى يسقط الطاغية..؟

أعتقد أن شاعرنا العالمى عماد أبوصالح لم يكن نائمًا أو مختبئًا تحت «لحافه» كما بدا فى ديوانه كان نائمًا عندما قامت الثورة.. ولأن أبوصالح ثورة بمفرده، ثار على نفسه مرات ومرات؟ فهاهى ثورته عندما قرر أن يلتحق بالكلية وهو بطىء الحركة نظرًا لإصابة إحدى ساقيه بشلل الأطفال، فقرر أن يهزم الشلل ويغادر سريره فى بلدته أو قريته «دملاش» التابعة لمركز بلقاس، ثم ثائراً على قريته والاستسلام للوظيفة الميرى، ذهابًا به إلى أم الدنيا، وقراره الالتحاق بالعمل بجريدة الوفد وهى التى تحمل لواء الثورة على الفساد، فيأخذ القليل مما يكفيه من أمه، حبيبته التى خصته بحنان جارف غير إخوته، تركها ثائرًا وقلبها معلق بين مخدعه ومحطة القطار بالمنصورة؟

ترك أمه بعد أن رجاها دعاءها له فى كل صلاة، وأن تخصه بالدعاء أثناء بزوغ الفجر.

أعطت أم عماد القليل من الجنيهات، بل أعطت له كل ما تملك، وما كان منه إلا أن أصر على ركوب القطار المتجه إلى قاهرة المعز، رغم عدم وجود مقعد فى العربة التى استقلها، وقال لى: صعدت إلى رف الشنط والمقاطف وجلست مختبئًا بين مقطفين أرقب شخوص ووجوه الدرجة الثالثة.. فهؤلاء مواطنون من الدرجة الثالثة وأنا مواطن اختبأت بين مقطفين.

جلس، أو بالأحرى «قرفص»، عماد ينصت إلى حكاوى ركاب الدرجة الثالثة ويستمع إليهم وكأنه يشاهد فيلمًا سينمائيًا وينتقل من مشهد إلى آخر وبداخله صراع مرير، فطريق مجهول، ماذا سيفعل فى قاهرة المعز؟ صحيح إنها بوابة الشهرة والمال والنجومية، وأن جلوسه فى قريته «دملاش» لن يأتى به إلا أن يكون مدرسًا فى مدرسة بجوار بيته لا أكثر ولا أقل.. إنما ثورته على تحقيق ذاته الشعرية وتحقيق طموحاته جعلت منه قائدًا سيدخل مضمار المعركة ولن يتراجع لحظة.

جاء عماد إلى القاهرة فى رحلة شاقة فوق أرفف الشنط والمقاطف، وجاء كله إصرار على مواصلة المشوار الصعب الذى بدأه..

عاش عماد أبوصالح قريبًا من الهامش، صاحب المتشردين والفقراء. اختار أن ينشر دواوينه فى طبعات خاصة ومحدودة ويوزعها بنفسه، كما أنه يرسم لوحات أغلفة دواوينه بنفسه. اختار الابتعاد عن الحضور الإعلامى والمؤسساتى والجماهيرى والرسمى، وفى لقاء مع صحيفة «الأخبار» اللبنانية سنة 2008 قال عماد: «لم أشأ أن أشتغل بالثقافة، ربما خوفًا من التعامل مع المثقفين، ربما هربًا من أن أجد نفسى فى «دكان» ثقافى، أو من أن أصير صاحب سلطة ما، وغالبًا لأنّ الشعر المنطقة الحميمة فى حياتى لم أشأ أن أخلطها بالعمل، لا أريد أن أتورط فى الكتابة، أخاف أن أتخذها مهنة»، يعيش فى عزلة بعيدًا عن الناس، ويؤمن- كما يقول فى المقابلة- بأن «مَن ابتعد رأى».

صدرت له ثمانية دواوين وكتاب رسوم. وفى سنة 2020 ترجم ديوانه «كان نائمًا حين قامت الثورة» إلى الإسبانية والكتالونية تحت عنوان «مديح الخطأ» وصدر عن دار «كاروان» فى إسبانيا وترجمه إلى الكتالونية فاليريا ماسياس باجيس، وترجمه إلى الإسبانية كاميران حاج محمود، وصمم الغلافين الفنان تيو بيرو.

كتب مقالات لتقديم شعراء من مختلف بلدان العالم، مثل بيلّا أخمدولينا التى تحمل لقب «كنز الشعر الروسى»، وفيسوافا شيمبورسكا، من بولندا.

كما أنه كتب مقالات عن قصص عشق متفردة عاشها شعراء بكل زخم أرواحهم المأساوية، ألقى فيها الضوء على نساء تميزن بجرأة غير معتادة مثل لِيلى بريك، عشيقة ماياكوفسكى، غالينا بنسلافسكى، عشيقة الشاعر الروسى سيرغى يسينين.

وكتب عماد أبوصالح فى شعره عن الحرية والثورة والعشق، وعن حياة المستضعفين. لا يستكين للصور الجاهزة، فقام بسخرية سوداء، بمدح ما يتم تصنيفه قبحًا. كتب مديح العدم، ومديح الخطأ، ومديح الفراغ، ومديح الظلام، واعتبر أن الفن يمكن أن ينبثق من مناطق الشر.

اعتمد أسلوبه على دقة الكلمات وبساطتها وعلى التقشف فى الأسلوب والابتعاد عن الجمل البلاغية. يقول: «قصيدة النثر قصيدة فاضحة، تجبر الشاعر أن يأتى إليها عاريًا على اللحم، لا موسيقى صاخبة ولا قافية ولا زركشات لغوية، ولا تخطيطات عمدية مسبقة».

ورغم أن شعره معجون بالمأساة والذات المهزومة، فإنه تمكن بأن يرسم بالكلمات إشراقات مرحة تجعل القارئ يبتسم وهو يقرأ شعره.

تميز شعره بحوارات شعرية مع شاعرات وشعراء أحب شعرهم الذى قرأه بنفس فلسفى وجمالى مثل فيسوافا شيمبورسكا، لوركا، وقسطنطين كافافيس، كما حاور أيضًا فى قصائده الفنانين مثل هنرى ماتيس.

عندما كنت أجلس مع صديقى الشاعر الكبير عماد وأفتش فى عقله أجده مملوءًا بدهاليز ودروب من الجنون، أحيانًا كثيرة تختلف معه ومرات تتفق معه أيضًا، وفى اختلافه لا تجد رحمة بل كفرًا.. إنه كافر فى عناده كافر فى شعره رغم صلواته الدائمة.. ولا عجب أن يكون ديوانه الأخير بعنوان «كان نائمًا حين قامت».

كثيرًا ما أجده يتحدث عن قريته القابعة على أحد فروع نيل دمياط فى عمق الدلتا، ورغم أن بلدى أيضًا تقع على نيل دمياط فى وسطها، إلا أنه يتمادى فى عناده وكأنه يرتوى من ماء آخر. وفى آخر مرة تحدثت مع صديقى الشاعر عماد أبوصالح جاءنى يحكى لى قصة من بطن قريته «دملاش» مركز بلقاس فقال لى: «إننى عندما أريد أن أزور قريتى أصلها عبر 8 مواصلات وقد تكون الثامنة إما مترجلًا أو ركوبًا على حمار». وأضاف أنه فى إحدى المرات ركب مع عم بكر أبوصبرة وقال له عم بكر كيف حال الناس فى مصر..؟! فأردف أبوصالح قائلًا وشاكرًا: إن الناس فى رغد والأسفلت مستوى والمياه نقية والإضاءة فى الشوارع كأنك فى عز الظهر، ولم يترك أبوصالح المجال وسأل عم بكر عن حال الناس فى قريته، رغم أن أبوصالح أدرى الناس بحالهم فى دملاش، فقال الرجل الأمى: إننا نعيش فى «قبور واسعة».. وكان هذا عنوان ديوان أبوصالح الخامس.

قد يسأل البعض ما علاقة القبور الواسعة بحالنا اليوم.. أجد أن العلاقة كبيرة جدًا بينها وبين الجلاد الديكتاتور فهو الذى يحول الناس إلى شبه أموات يتحركون فى قبور واسعة يتوهمون أنها الحياة.

وكان تفسير أبوصالح لهذه القبور عندما ربط بينها وبين رواية أخرى ربما لم يكن موطنها بلادنا إلا أنها فى مضمونها تنطبق تمامًا على ما نحن نعيشه الآن.. فقص على مفسرًا حكاية قرأها من «كتاب الأحضان» للكاتب الأمريكى اللاتينى أدواردو جاليانو يحكى فيها حكايات طريفة وموجعة يفضح بها أساليب السلطة وعشقها وعشق المسئول الظالم الديكتاتور للكرسى، يروى حاليانو حكاية وقعت فى سجن مونفيديو الرهيب فى عاصمة أروجواى، إنه جاء- والكلام للشاعر، عماد أبوصالح- جنرال جديد لرئاسة السجن ففوجئ فى الساحة أن هناك كرسيًا لا يجلس عليه أحد ويقف بجوار جنود حراسة فى نوبات طوال 24 ساعة فتساءل عن سر حراسة الكرسى الفارغ دون جدوى، وحين عاد إلى سجلات السجن فوجئ بالمهزلة، اكتشف الجنرال أنه منذ 30 عامًا كان هذا الكرسى مخصصًا لجنرال ديكتاتور قديم يتولى مسئولية السجن، وحين دهنه ذات يوم بالبويه خصص جنديًا لحراسته حتى لا يجلس عليه أحد.. ومن يومها صارت حراسة الكرسى عادة مقدسة حتى ولو كان خاويًا.

هنا ابتسمت لأبوصالح ودعوت له بأن يصل على جنونه الجميل.. وأن يظل نائمًا بعيدًا عن الخوف.

بعد أن توجت بجائزة سركون بولص الإسبانية للشعر للعام 2020 فى نسختها الثالثة فها هى تعلن للمرة الثامنة أنك ثائر لا محالة، وأننى مازلت أحبك.

 

محمد مهاود