عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

 

منذ نشأتى الأولى وبحكم تربيتى فى بيئة إسلامية- مسيحية فى جنبات منطقتى شبرا وروض الفرج، ازداد يقينى مع الاطلاع على الإنجيل بما أكد عليه السيد المسيح فى إنجيل متى (44:5): «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم»، أتصور أن هذه المقولة حكمت الكثير من تصرفاتى على مدار حياتى، حتى إننى كنت أرددها فى لحظات التجلى بينى وبين نفسى على شكل الإنشاد الدينى أو على شكل خطابى، كنت أشعر وربما ما زلت أن هذه الكلمات تعبر عن أفضل الحالات الإنسانية سمواً وتسامياً، وأن بها وفى إطارها ربما يتجاوز الإنسان الحالة المفاهيمية فى المسيحية لـ«الخطيئة الأولى» التى أدت به إلى ما هو عليه من شقاء فى الأرض. أحياناً عندما كنت ألتمس هذه المعانى فى سلوكى أشعر بأننى تجاوزت وضعى الإنسانى، وأصبحت أحلق فى عالم آخر، أو حالة أخرى، تلك الحالة التى يتم وصفها بـ«تقدر تطير من غير جناحات».

غير أنه مع تطور تفكيرى بحكم السن، ودراستى للسياسة بحكم التعليم، وقراءاتى فى تاريخ المجتمع البشرى بحكم حبى للقراءة، أدركت شيئاً لافتاً للنظر ومفارقاً لفهمى لمقولة المسيح عليه السلام، رغم أنه لا تناقض بين الفهمين من وجهة نظرى. أدركت أن هذا الفهم ينطبق أفضل ما يكون التطبيق على العلاقات بين الأفراد فى سياق التعاملات المجتمعية، فنشر الحب حتى بين الخصوم يحقق ربما المقصد الإلهى من خلق الإنسان، وهو تجاوز نوازعه الشريرة والانصياع لإرادة الله فى نشر الخير والانحياز له. أذكر أنه كان لى جار شرير، يمعن فى الشر، وكنت أعامله بحب، على خلفية المنطق الذى صدرت به سطور هذا المقال، وقد أتى ذلك بثماره، وربما كان ذلك من وجهة نظرى سبباً فى نزع السم– الشر– الموجود فى داخله، وكان يضر به الآخرين.

غير أن هذا النظر للأمور ربما هو أبعد ما يكون عن الواقع إذا ما انتقلنا من سياق علاقات الفرد إلى صعيد العلاقات بين الدول والأمم ونظم الحكم، من منطلق أن المنطق الذى يحكم علاقات الأفراد مغاير تماماً للمنطق الذى يحكم علاقات الدول. صحيح أن نزعة «الأنسنة» يجب ألا تغيب فى سياق العلاقات الدولية، إلا أنها يجب أن تكون فى هامش هذه العلاقات، وليس فى الصدارة منها، فالقتل حرام وسلوك بشع فى السياق المجتمعى ويعاقب عليه القانون، ولكنه محبذ ومطلوب فى المعارك والحروب!

عزز هذا التصور لدى سلوك المجتمعات المسيحية فى الغرب، فهى لم تحب أعداءها ولم تحسن إلى مبغضيها، وإنما خاضت أشرس الحروب من أجل تحقيق النصر والسيادة على الآخر، أياً كان هذا الآخر، وهذا ليس نشازاً، وإنما هو جزء من طبيعة الاجتماع الإنسانى، حتى إنه يمكن لك الخلوص من استعراض هذه الطبيعة إلى أن التنكيل بالعدو والكيد له ربما هو القانون الطبيعى فى العلاقات بين الدول.

وإذا كان لكل قاعدة شواذ، فإن هذه القاعدة– وجوب كراهية العدو على مستوى الدول– يسرى عليها المنطق ذاته، ليس عليك أن تتعب نفسك كثيراً، وتتأمل بعيداً، بل انظر حولك وستجد شاذ هذه القاعدة ماثلاً أمام عينيك، وهو ما ينطبق فى علاقات أغلب نظم حكمنا العربية مع العدو إسرائيل، فإنها علاقات تقوم على حب العدو والولع بهذا الحب والرغبة فى التوحد معه حتى يصير الجسدان فى لباس واحد!! لا نبالغ إذا قلنا إنها ليست علاقة حب فقط وإنما علاقة هيام وغرام من طرف واحد بالطبع، حتى إنه قد يخيل إليك أن إسرائيل تلك ينطبق عليها الوصف العامى بأنها «ديك البرابر» فى وسط مجتمع داجنى!

لو أنك قرأت فنون الحب التى عرض لها ابن حزم الأندلسى فى كتابه «طوق الحمامة» لذهلت من أن بعض نظمنا العربية تمارس هذه الفنون مع الحبيب– العدو.. «تل أبيب»! إن بعضها يشاغلها ويحاول أن يلفت نظرها إليه بكل السبل فيما هى سائرة فى الطريق غير منتبهة إلى وجوده من الأصل، أو مدعية ذلك! ولذلك لا تتعجب لو أنك وجدت أن هناك من يحاول أن يساعد شقيقه العربى ويمد له يد المساعدة عن طريقها، فهى الهدف والوسيلة فى الوقت ذاته، رغم أن هذا الشقيق لا علم له بالمساعدة ويرفضها باعتبار أنه فى منظور شقيقه ليس سوى «كوبرى» للوصول إلى الحبيبة! حتى إن نتنياهو أصبح يشعر بالإزعاج من كثرة الأنظمة العربية المحبة لبلده والراغبة فى الارتباط بها بشكل شرعى أو غير شرعى!

وإذا كان جابريل جارسيا ماركيز قدم لنا صورة رائعة عن «الحب فى زمن الكوليرا»، فإن بعض نظمنا العربية تقدم لنا صورة أروع عن الحب مع العدو فى زمن الكورونا– أظنك تفهمنى– من أجل تقديم كل ما هو خير للإنسانية!!

كل ذلك رغم الحقيقة التى ربما لا تقبل النقاش عن أن كل خطوة لصالح هذا العدو تمثل خصماً من رصيدنا العربى، والعكس، فالتناقض بين الطرفين ومصالحهما، كما يذكر البعض، تناقض مطلق لا يقبل التوفيق بأى معنى من معانيه.. ولعله لذلك، فليسامحنى البعض لعدم قدرتى على ممارسة فضيلة الحب مع العدو.. إسرائيل!

[email protected]