رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

كان هناك منافس من نوع خطير للسعدنى الكبير محمود والسعدنى المتوسط صلاح.. وبالمناسبة السخرية لدى الأسرة متأصلة ولكنها مع الأسف لم تنتقل بالوراثة الا فقط للسعادنة من فرع الولد الشقى السعدنى الكبير فقد كان هو أمام الساخرين وكان العم صلاح بالفعل أحد ظرفاء مصر والوسط الفنى.. ولكن ما علينا.. فقد استطاع بهجت قمر الكاتب والشاعر والفنان أن يؤسس صالوناً فى بيته الصغير بالدقى.. كانت الدعوة لهذا الصالون مفتوحة، فأنت تستطيع أن تنال عضوية هذا الصالون حتى لو لم يسعدك الحظ بمعرفة صاحبه، يكفى أن تكون قريباً من أصدقائه لكى ترافقهم الى بيت بهجت قمر الذى كان يجلس فيه بالساعات الطوال فى حجرة مكتبه وليس أمامه من شىء سوى الأوراق البيضاء وقلم جاف وأمامه عدة تليفون قديمة كتلك الموجودة فى أفلام الأبيض والأسود والخاصة بالعمد فى الأرياف، وخلف المكتب جرس نحاسى أصفر اللون يشبه تماماً الأجراس الموجودة فى المدارس، وعلى الحائط المواجه له صورة ضخمة للملك فاروق ومن حوله صور أصغر لبقية الأسرة العلوية وبجانبها علم مصر القديم بلونه الأخض.

وفى الجانب المقابل صورة للفنان محمود نصير الذى هب مع فرقة مسرحية لإحياء عدد من الحفلات فى بيروت فأعجبه الحال فأقام هناك لأكثر من عشرين عاماً ولقبوه أيضاً بالملك فى بيروت ولم يكن المحمول قد تم اختراعه بعد، ولذلك فقد كان التليفون «المحطوط» هو وسيلة الاتصال الوحيدة، وربما لو حضر بهجت قمر هذه الأيام لما احتاج إلى المحمول على الإطلاق لأنه لم يغادر مسكنه إلا للضرورة القصوى أو للشديد القوى، وهو فعل هذا الأمر لسبب لا يعرفه أحد.. فقد عاش بهجت قمر فى العصر الملكى وظل أسيراً لهذا العصر فى الجمهوريات الثلاث، جمهوريات ناصر والسادات ومبارك، وعندما تقترب من بهجت قمر يأخذك فى رحلة عفوية إلى زمان مضى وفات وربما مات ولن تقوم له قائمة من جديد، فعجلة الأيام تمضى للأمام، لكنها عند بهجت قمر توقفت عند يوم 23 يوليو من عام 1952، ومع أن بهجت قمر كان من الصعاليك العظام الذين عاشوا حياتهم بالطول والعرض وأمضى حياته كلها فى السهر والضحك السخرية، ولو أتيح له الظهور فى العصر الملكى لربما كانت أحواله أسوأ بكثير مما كانت عليه فى عصر الثورة، ومع ذلك فإنه تمنى لو أن مصر لم تشهد ذلك اليوم على الإطلاق، فقد كانت له فلسفته الخاصة.. ولأن بهجت قمر جاء من جذور شعبية، حيث نشأ فى حى شعبى فقير وكانت متعته الوحيدة فى الحياة هى التسكع وسط أهل الحى وهو طفل صغير يمضى بين أهل الحارة ويرصد صوراً مختلفة لأنواع البشر، فإنه يبدو أن الذاكرة لم تكن تدع أصحاب هذه الصور تذهب سدى، فقد كانت تسجلهم وتحتفظ بتفاصيل خاصة تميز كلاً منهم وتحفظ عن ظهر قلب ما يشاب على ألسنتهم من كلمات ولزمات، واتسعت بالتأكيد مدارك بهجت الصغير.. لكن حياته داخل الحارة تشبعت بالصداقات والملاحظات وقرر أن تتسع دائرة معارفه ليخرج حيث المناطق الأكثر رقياً والمجتمع السكندرى المخملى.. وإلى البحر يذهب بهجت قمر بعد أن يصحو ولا يعود إلا مع ساعات الفجر، حيث يمضى وقته كله متأملاً، وبتعبير بهجت نفسه يقول «كنت مسحوراً بجمال وجاذبية هذه الكتلة الرهيبة من الماء ويسرح خيالى دائماً مع المراكب التى تمخر عبابه وأتخيل نفسى راكباً على سطح أحد هذه المراكب أسافر لبلاد الله الواسعة».. لكن أمنية بهجت قمر هذه لم تتحقق على الإطلاق وظلت الأمنية حبيسة بين جنبات هذا الكيان البشرى غير القابل للتكرار والذى لم يكتشف نفسه أو بالأصح لم يضع يده أبداً على موهبته إلا بالمصادفة.. وجاءت بهجت عدة فرص للسفر إلى القاهرة والبحث عن وظيفة، حيث عزت الوظائف فى الإسكندرية المدنية الساحلية المحدودة الإمكانيات، لكنه وجد نفسه أسيراً للبحر وللسحر الغريب الذى يغزو عقله وقلبه كلما وقعت عينا بهجت عليه.. وذات مرة وفى مواجهة مع النفس كان على بهجت قمر أن يختار ما بين الانجذاب لسحر البحر إلى الأبد والضياع وسط أمواجه أو السفر إلى القاهرة والالتحاق بالأمواج البشرية الهادرة الباحثة عن فرص عمل، وكان القرار بالتوجه إلى العاصمة ونسيان الإسكندرية وأهلها وبحرها، وكان فى ذلك مصلحة للطرفين، فقد كان بهجت يصحب فى رحلته إلى البحر كل يوم أحد أصدقائه من سكان الحارة وهما فى الطريق يقفان أمام إحدى العمائر ويتبادلان الحديث بصوت مسموع حول الرجل الواقف فى أعلى قمة السطوح لكى يلقى بنفسه ويبدى صديقه خوفه الشديد على الرجل الذى هو فى عز شبابه، ثم يبدأ الطرفان فى سرد حكايات ما أنزل الله بها من سلطان حول كيفية صعود الرجل إلى العمارة والأسباب التى دعته إلى اتخاذ قرار بالانتحار.. وكان بهجت فى حقيقة الأمر يخترع هذه الحكاية من بنات أفكاره فيحتشد الناس حوله ويقوم كل واحد من المتواجدين بإضافة معلومة من عندياته ح تكبر الحكاية وتتضخم.. وهنا ينسحب بهجت وصديقه إلى حى آخر وحكاية أخرى حتى جاء يوم وتعرف عليهم الناس وصاح احدهم بعد تجمع عدد غير قليل من البشر بفضل حكايات بهجت وصديقه عن الشاب الواقف فوق السطح من أجل الانتحار، وهتف وسط الحشد وهو يقول: أهم العيال ولاد «.....» اللى ضحكوا علينا قبل كده!

وانطلقت الحشود خلف بهجت وصديقه، لكن بهجت تعثر وسقط وأمسك به بعضهم ونزلوا فيه طحن وفين يوجعك. لكن رجلاً رق قلبه لحال بهجت الصغير ودافع عنه وخلصه من براثن الناس الذين كوى الغيظ قلوبهم بسبب مقاليه وسأله الرجل انت عامل كده ليه يا ابنى فقال بهجت والبراءة مرسومة على ملء وجهه.. كنت بأسليهم الحق عليا.. وضحك الرجل وترك بهجت ومضى وقرر بهجت أن يهجر الإسكندرية وذهب إلى القاهرة واتجه إلى أصدقائه الذين سبقوه وهم أيضاً أصحاب جذور سكندرية، وعن طريق احدهم تعرف بهجت قمر بالأستاذ عبدالحى أديب الذى كان أحد نجوم كتابة السيناريو فى مصر والعالم العربى وكان لهذا الرجل الفضل فى بزوغ نجم بهجت قمر فى عالم الفنون، فقد كان بهجت يكتب الشعر ويهجو به الأصدقاء، فقد اكتشف بهجت قمر منذ الصغر أن بنيانه لا يستطيع أن يصمد أمام الأقوياء وأصحاب العلات و«المجانص»، فكيف كان له أن يدفع الشر عن نفسه؟! ولم يكن هناك أمضى من لسانه للقيام بهذه المهمة، والذى أثبت الزمان أنه أقوى وأبقى من كل العضلات.. فقد عاش بهجت العمر كله متسلحاً بهذا السلاح العنيف الذى اعتبره البعض من أسلحة الدمار الشامل لأنه لو كتب لسعادتك أن تقع فريسة السلاح الفتاك فسوف تكون فضيحة حضرتك بجلاجل.. ومن حسن حظى أننى حضرت كل معارك بهجت قمر الشعرية مع صديق عمره سمير خفاجى وصاحبه المقرب إلى قلبه وجدى الحكيم، ومازلت أحتفظ بهجائه والحاد اللاذع الرهيب لتوأم روحه العم فؤاد معوض الشهير بفرفور وأتمنى لو أن الولد الموهوب أيمن بهجت قمر جمع هذه التحف فى ديوان خصوصاً أن الأستاذ وجدى الحكيم بالذات يحتفظ بكل شىء كتبه بهجت حتى الشعر الذى كتبه فى حق وجدى نفسه والذى به يفتخر.. وفى أول لقاء يجمع بهجت قمر مع عبدالحى أديب حدثت عملية تجاذب، فالمجال المغناطيسى لشخص بهجت يبهرك وقدرته على السخرية التى لا تجرح تجعلك فى حالة ضحك متواصل وانشكاح لا مثيل له، وطيبة القلب الحقيقة وبراءة الأطفال التى ترتسم على قسمات وجهه تجعلك تشعر بأن بهجت قمر ليس شخصاً قريباً منك.. بل شخص قريب لك.. وجاء إلى القاهرة فى تلك الأيام الأستاذ أحمد البدينى المسئول عن الإذاعة العربية فى لندن فى أحد الفنادق الشهيرة.. وقابل البدينى بهجت قمر باعتبره مؤلفاً ساخراً وشاعراً كبيراً وسأله أن يكتب له مسلسلاً للإذاعة العربية.. وانتفخ بهجت قمر غروراً وهو يستمع إلى كلمات الثناء والمديح من أحمد البدينى، وكان يهز رأسه تأكيداً لهذه الكلمات، وجلس كما الطاووس أمام أحمد البدينى الذى سأل بهجت عن الوقت اللازم لإتمام المسلسل، فنظر اليه بهجت وقال: عشرة أيام! ولم يصدق الرجل نفسه وقبل أن يسلم على بهجت.. رفع الأخير أصبع السبابة وكأنه يضع شروطاً تعجيزية وهو يقول بس لازم أقبض العربون الأول! وبالفعل منح الرجل بهجت قمر مائة جنيه، وعندما أمسكها بهجت ظن أن البدينى دفع ثمن المسلسل بالكامل، فقد كان المبلغ رهيباً ولم يصدق بهجت قمر نفسه واتجه بأقصى سرعة إلى محل لبيع الشرابات واشترى دستة شرابات وجلس فى الشارع وخلع شرابه القديم ولبس جوز شرابات نوفى، ونظر إلى السماء وضحك ضحكة صافية سرعان ما تحولت إلى ضحك هيستيرى متواصل فإذا بالناس كما كانت تفعل فى الاسكدرية تحتشد حوله دون أن يشعر، وعندما أدرك ذلك قام من فوره وبأقصى سرعة وذهب إلى المكتبة واشترى قلما وكراسات وذهب إلى الفندق الذى كان يقيم به فى وسط القاهرة، وكان فندقاً بالاسم لكنه بالفعل لم يكن يصلح للاستخدام الآدمى فقد كان من بين سكانه الدائمين البراغيث والبق والفئران وجميع الحشرات.. وسهر بهجت الليل كله دون أن يشعر للمرة الأولى برزالة البق والبراغيث وانتهى من كتابة سبع حلقات وذهب إلى البدينى فى اليوم التالى وسلمه الحلقات السبع، وجلس الرجل فى بهو الفندق ذى النجوم الخمس يقرأ متعجباً لقدرة بهجت الفائقة على الإضحاك وصنع الإيفيه وحيوية الحوار وجاذبيته.. وسأله: لقد تركتك بالأمس فقط.. هل الحلقات السبع كانت جاهزة عندك؟! ويرد بهجت بالنفى، وترتسم الدهشة على وجه البدينى.. ولم تمر سوى ثلاثة أيام إلا وقد انتهى بهجت من كتابة الثلاثين حلقة وقبض ثلاثمائة جنيه بالتمام والكمال، لكن الأهم منها أن وضع يده على الموهبة التى وهبها له الخالق عز وجل فقد أدرك بهجت قمر منذ هذه اللحظة أن مستقبله فى الكتابة.. خصوصاً الساخرة منها.. وبالطبع كان المجال الحيوى لإثبات موهبته هو المسرح، لذلك كان على بهجت أن يبحث عن سمير خفاجى ويلتقى به ويصنع معه هذا النجاح المنقطع النظير، ويتربع بهجت منفرداً على عرش التأليف المسرحى، لكن ذلك الإحساس الذى انتاب بهجت قمر دائماً كلما نظر إلى بحر الإسكندرية لم يشعر بما يقابله فى مصر إلا عندما شهد دار الأوبر المصرية القديمة والتى احترقت لأسباب لا تزال مجهولة حتى يومنا هذا ويومها كان بهجت قمر يمر كل يوم من أمام الأوبرا ليرى اسمه مكتوباً بالنيون على أفيش الأوبرا كمؤلف لإحدى روايات المتحدين ويومها سرى فى جسده إحساس أكثر تأثيراً من ذلك الذى أحدثه البحر فى قلب وعقل ووجدان بهجت.. لقد وجد نفسه أخيراً ولهذا احتكر سمير خفاجى الإبداع الفكرى لبهجت قمر على مدى ثلاثين عاماً وعرف بهجت الاستقرار وسكن عدة مناطق فى القاهرة قبيل أن يستقر فى منطقة الدقى بالجيزة.. وأمضى حياته كلها خلف مكتبه يمسك فى يده نفس القلم الجاف الذى اشتراه ذات يوم من المكتبة بقرشين صاغ لكى يكتب حلقات للــB.B.C.. ويقوم بتأليف المسرحيات والأفلام والمسلسلات، لكن بنفس الشرط وهو أن تدفع العربون أولاً.. وكان فرفور إذا قابل أحد المتنجين خارجاً من عند بهجت قمر يسأله: «هل.. اتفقت.. مع بهجت؟».. فيرد المنتج: «نعم اتفقنا».. فيعود فرفور ليسأل: «ودفعت عربون؟».. فيجيب المنتج: «لأ.. ما دفعتش».. فيضرب فرفور كفاً بكف وهو يقول: «علىَّ الطلاق ما ح يكتب».. وبعد أيام يلتقى فرفور بنفس المنتج على سلالم بيت بهجت فيعود يسأله: «ها.. اتفقت فيجيب الرجل نعم».. فيسأل فرفور: «ودفعت العربون؟».. ويرسم المنتج ابتسامة الفرح وهو يجيب: والله دفعت.

فيضرب فرفور يديه وهو يقول: «على الطلاق برضه.. ما ح يكتب»! فقد كان فرفور يحب أن يشنع على بهجت قمر، وبنفس القدر كان العم بهجت يحلو له أن صنع الشىء نفسه.. ولا أخفيكم القول! إننى عندما اقتربت من بهجت قمر انتابنى نفس الإحساس الذى حل به عندما التقى بالبحر.. حديث ساحر.. كلمات ساخرة.. تعليقات لاذعة.. سرعة بديهة لم تتوافر لغيره، فلسفة خاصة به وحده.. وجدت نفسى فى ذات الموقف الذى قال عنه بمبونستى تلميذ سقراط أشعر كلما اقتربت منه أننى نملة ترتاد مجاهل فيل»، وقد كان الفيل هو لقب بهجت قمر لدى الاصدقاء والمحبين.. سبحان الله الرجل الذى جاء من أفقر أحياء الإسكندرية بلغ القاهرة لينير لياليها بأعماله.

وفى عز الاشتراكية وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج بما فيها الإبداع يبحر سمير خفاجى وبهجت قمر ضد التيار، ومن خلال فرقة خاصة هى فرقة الفنانين المتحدين ينجح هذا الثنائى فى تحدى الدولة والتفوق عليها، ذلك لأن داخل كل منهما موهبة حقيقية.. وموقفاً سلبياً من الدولة ونهجها، بل ومن الثورة نفسها.. فإذا كان لسمير خفاجى الحق فى موقفه باعتباره ابن الطبقة التى جاءت الثورة من أجل القضاء عليها فإن موقف بهجت يبدو غريباً، ذلك لأنه من الطبقات الكادحة التى ما قامت الثورة إلا من أجلها.. لكن لماذا عادى بهجت قمر الثوار؟!.