رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

 

ذات إجازة صيف طويلة طلبت الحاجة أم أكرم أن تعود الى القاهرة لرؤية الأهل الذين انقطعت أخبارهم لأكثر من خمسة أو ستة أعوام، وبالفعل  وافق الولد الشقى ولكن بشرط أن تصحب أم أكرم البنات فقط على أن أبقى معه، وعندما أعلنت رفضي وشجبى واحتجاجى على هذا القرار الظالم كانت نظرة من عين السعدنى كفيلة بأن أعود الى سابق عهدى سكتم بكتم، فأنت لا تستطيع أن تناقش السعدنى فى أمر من الأمور سبق أن اتخذ  فيه قراراً، فهو أشبه بالمؤسسة العسكرية، ولكنه يختلف عنها اختلافاً بسيطاً، فالمفروض أنك تنفذ أوامره أولاً ثم ثانياً ثم ثالثلاِ وأخيراً عليك إبداء الطاعة التامة فلا تفكر مجرد التفكير فى مناقشة الأمر أو فتحه من أساسه وهكذا وجدت نفسى محروماً م العودة الى أغلى ما يملك الإنسان.، ناسه  وأهله وبلده وأصدقاء الصبا وذكريات الطفولة، حرمنا منه كتب علينا أن نعيش كل هذه الذكريات فى المنفى.. ومن أجل هذا كله كنا ندعو الله سبحانه وتعالى أن يخلصنا من حكم الرئيس السادات بأى وسيلة وأى ثمن ولكن ونحن فى لندن  حيث يصدر السعدنى مجلة «23 يوليو» وقد تعرض لنكسة مالية هددت إصدار الجريدة، وجاءنا اتصال تليفونى من القاهرة يفيد بأن الحاجة أم محمود توفيت الى رحمة الله.. ولم أصدق  نفسى فقد كانت ستى أم محمود بالنسبة لى هى نصف مصر، فهى التى ربتنى فى نفس الحارة التى تربى فيها السعدنى «حارة سمكة» وكانت تحكى لى حواديت ما أنزل الله بها من سلطان، وكانت أقرب الناس الى قلبى.. ومن شدة تعلقها بى كانت تسمى كل الأشياء فى بيتها المتواضع باسمى.. فالسرية اسمها سكرية «الأبيض» والملعقة والكوباية التى تتناول فيها الشاى والسرير الذى ننام عليه كلها أطلقت عليها اسم «الأبيض».. أما سر هذه التسمية فلأننى فى نظرها أول سعدنى أبيض ظهر الى النور بعد أجيال من أصحاب البشرة السمراء، وعندما استمعت الى خبر وفاتها لم أستطع أن أتمالك نفسى وانهمرت فى نوبة بكاء لا تنقطع  حتى تدخلت أمى الغالية ونصحتنى بأن أكف عن البكاء خصوصاً ان السعدنى الكبير فى طريقه الى البيت واذا علم بالأمر لا ندرى ما قد يحدث له، وهكذا اتفقنا على أن نخفى أمر وفاة ستى أم محمود عن السعدنى وعندما جاء حيث نسكن فى شقته المتواضعة فى منطقة ميدافيل بعمارة استبوارث تاور والمكونة من غرفة واحدة، مطبخ، حمام وصالة فقط لا غير.. لم أدر الى أين اختفى عن ناظريه.. ولذلك فقد أمسك بى وهو يسأل.. مال  عيناك حمرا كدا ليه؟!.. أجبت بأنها  الحساسية أمسكت بعينى ولم يصدق السعدنى الأمر لكنه تظاهر بالعكس ومرت ثلاثة أسابيع وتلقى تليفوناً من الأستاذ أحمد بهاء الدين وقال له البقية فى حياتك.. فسأل السعدنى: فى مين؟! ويرد الأستاذ بهاء: أنت ما عرفتش ولا إيه يا محمود؟! فرد السعدنى: فى مين يا عم بهاء؟ فيجيب بهاء: فى الست الوالدة.

ويسأل السعدنى.. الحكاية دى حصلت إمتى ويخبره الأستاذ بهاء بالتفاصيل وبمجرد أن يغلق السعدنى التليفون يضع وجهه بين كفيه وينخرط فى نوبة بكاء لم أشهد لها مثيلاً من قبل.. فقد سبق أن بكى مرة واحدة عندما تعرضت الحاجة أم أكرم لأزمة صحية عنيفة عام 1969 كانت دموعه عزيزة.. وتذكرت بالخير الشاعر ابوفراس الحمدانى الذى تعرفت عليه مبكراً بفضل قربى من الولد الشقى واطلاعى على مكتبته العامرة وهو يقول.. لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة.. ولكن دمعى فى الحوادث غالى فقد  كان أبوفراس رهن المحبس  وكان السعدنى رهن المنفى ولذلك وبمجرد ان شاهدته فى الوضع منهاراً انتقلت نفس الحالة الى وهنا أدركت مرارة المأساة التى يعشها الولد الشقى، فها هى أعز انسانة فى حياته تذهب للقاء ربها وهو بعيد عنها لا يستطيع أن يقف فى سرادق العزاء يتلقى واجب العزاء.. وازدادت نقمة جميع أفراد الأسرة على الرئيس السادات.. وسافرت الحاجة أم أكرم وبصحبتها شقيقاتى الأربع الى مصر بينما اتجهت أنا والسعدنى الى الكويت عائدين الى العراق  ولأن أحمد الجار الله هو وجريدته السياسية هما واحة الأمان والراحة بالنسبة للسعدنى فقد حدث أن كتب السعدنى فى جرائد سعودية وكويتية ولكنه كان يفضل دائماً الأخيرة لأسباب كثيرة، فقد كانت الصحف الكويتية ولا تزال حتى يومنا  هذا تتمتع بقدر كبير من الحرية، فكان السعدنى ينتقد المجتمع الكويتى والمسئولين فى الكويت وفى كل أنحاء الوطن العربى دون تدخل من أحد ولكنه مثلاً فوجئ ذات يوم بتغيير مقاله فى جريدة سعودية لأنه كتب عن بيليه ملك الكورة فإذا بهم فى الرقابة يحولون بيليه الى رئيس للكورة، وهنا ضرب السعدنى يديه كفاً بكف وهو يقول ده معقول فإذا بالمسئول عن الجريدة السعودية، يخبره بأن ملك دى صعبة جداً فى السعودية،

فهناك ملك واحد واذا جاء الحديث عن ملك آخر فكيف بالله عليك يكون هذا الملك هو بيليه، وعليه فقد قرر السعدنى أن تكون  واجهته الصحفية هى السياسة الكويتية ولا شىء، غيرها وهكذا، كان يطول بنا المقام فى الكويت وكانت شلة السعدنى تتسع لتشمل الصحفيين الفلسطينيين ومنهم قاسم أفبونة والكويتيين ومنهم حمد السعيدان والجار الله وسليمان الفهد وبالطبع نوارة الصحافة العربية الأستاذ أحمد بهاء الدين.. وعندما حان مجىء أفراد الأسرة جاءوا الى الكويت ومنها سافرنا براً الى العراق وودعنا الود الشقى ليعود الى الكويت ومنها الى لندن، وحدث ما توقعه فقد تخلت عنه كل الأنظمة التقدمية وعلى رأسها النظام العراقى، وبالطبع كانت ليبيا تعادى المجلة منذ العدد الأول، وكان العدد الـ52 هو آخر اعداد المجلة التى أغلقت أبوابها وأعلنت افلاسها وكان السعدنى قد حصل على الاقامة فى لندن، وهكذا كان يسافر بين الحين والآخر ولكنه لم يعد يغيب كل هذه الأشهر الطويلة كما كان الحال أيام «23 يوليو» وفى العدد الأخير سب الأخضرين للأنظمة التى تمارس التقدمية فى الاذاعة والتى تدعى الثورية أمام الميكروفون ونال الجميع من ضربات السعدنى العراق على لييبا على سوريا لم يستثن أحداً وجاءته فى تلك الأيام دعوة لحضور مؤتمر للقوى الوطنية المناهضة لكامب ديفيد وزيارة السادات فحضر السعدنى اللقاء وناقش المجتمعون احوال الصحفيين العرب الذين يعيشون فى المنفى، وهتف أحدهم بأعلى صوت مطالباً بمنح الصحفيين العرب المعارضين جوازات سفر من الدول العربية، وهنا نحت السعدنى كلمة الحنجورى فوصف بها الأخ إياه وطالبه بتحديد هوية أى صحف هؤلاء الذين هم فى حاجة الى جواز سفر.. ويسأل السعدنى: أى صحفيين؟ فقال الأخ إياه الصحفيون المعارضون لنظام الحكم فى بلادهم.. ويعود السعدنى ليسأل: معارضين لحكم مين؟ فيجيب الأخ إياه: الصحفيون العراقيون والسوريون، لاحظ ان المؤتمر فى سوريا هنا استوقفه السعدنى قائلاً: الصحفى العراقى أو السورى اللى بيعارض مش محتاج باسبور ولا جواز يا ابنى.. ويسأله الحضور: آمال محتاج ايه يا استاذ محمود؟.. فيرد من فوره: محتاج حانوتى.. فضحك كل من بالقاعة ما عدا أفراد الوفد السورى والعراقى.. وكان السعدنى هو المواطن العربى الوحيد الئى يحمل  جوازين للسفر أحدهما سورى والآخر عراقى.. أقول جواز سفر ولا أقول جنسية.. كان يحرص على دخول سوريا بالجواز العراقى والعكس بالعكس.. لذلك كان الجميع يهابونه ولكنهم أبداً لم يطمئنوا اليه باعتبار انه صحفى مصرى لم يبع قلمه لنظام عربى، وأنه ظل على الدوام وفياً لبلده منتظراً اللحظة المناسبة لكى يعود اليه.. ومرت الدراسة على خير، وعندما جاءت اجازة نصف العام كانت اجازة طويلة الى حد ما قرر السعدنى السفر الى لندن وصحبنى معه، ولكننا فى طريق العودة تعطلنا بعض الشىء لأنهم طلبوا  منه أن يكتب لمجلة «الدستور اللندنية».. وبالفعل عدت الى الكويت بمفردى ولكنى بمجرد وصولى شاهدت موظفى المطار وهم يضعون أمامهم ورقة كبيرة مكتوباً عليها بالخط العريض محمود عثمان السعدنى، ممنوع من الدخول.. وبعد أن وصلت الكويت ذهبت الى ستنرال عام واتصلت بالسعدنى وأخبرته بالأمر، وبالطبع كانت الكويت بالنسبة لنا فى تلك الأيام بالذات هى الممر الوحيد للخروج وللدخول الى العراق، واذا  حدث وتم منع السعدنى من الدخول الى الكويت فهو أيضاً ممنوع من دخول العراق.. وقام السعدنى بالاتصال بوزير خارجية الكويت فى ذلك الوقت الشيخ صباح الأحمد، وهو الأمير الحالى لدولة الكويت، وتمت تصفية الأمور واتضح ان أمر المنع تم خوفاً من المسولين العراقيين وبناء على رغبتهم فقد أبدى أحدهم غضبه لما يكتب السعدنى فى السياسة الكويتية وعندما تكلم السعدنى مع أحمد الجار الله بعد ذلك قال له بالحرف الواحد.. يا أحمد الكويت مش أدى على الطلاق  أخليهم يندموا على اليوم اللى أمهم ولدتهم فيه.. وكان الجار الله يطيب خاطر السعدنى ويعده بأن الأمور ستسير الى الأفضل، وبالفعل تم رفع اسم السعدنى من كشوف الممنوعين من الدخول، ولذلك عندما عاد استقبلوه أحسن استقبال وهبط من المطار الى الجار الله، وبعد  عدة أيام عاد الى العراق بسيارته الكابرس وبدا أن هناك أمراً ما سيحدث بينه وبين رؤوس كبرى فى العراق.. فقد كشر طه ياسين رمضان معه طارق عزيز عن أنيابهما وسمما الأجواء بين السعدنى وصدام حسين ولذلك فقد اتصل السعدنى بالنقيب أرشد الياور الشخصى لصدام حسين وطلب منه الإذن بمغادرة العراق نهائياً.. ولكن أرشد استغرب الأمر وطلب من السعدنى مهلة، خصوصاً ان المعارك بين العراق وايران حرجة للغاية.. ومع ذلك لم يمر أسبوع واحد الا وكان صدام فى انتظار السعدنى، وحكى السعدنى لصدام ما لا قاه من عذاب على أيدى زبانية مكتب مصر وكيف أنهم يطلبون الرشوة عينى عينك من أجل زيادة الأعداد التى يشتريها العراق من «مجلة 23 يوليو» ثم تطرق السعدنى الى الخلاف الحاد الذى نشب بينه وبين عبد المجيد فريد سكرتير عام رئاسة الجمهورية فى عهد ناصر.. وحدثه عن حزب الكهرباء وكيف اختلط الحزب الذى أنشىء خارج مصر وضم المصريين المغتربين.. كيف تم الزج بينه وبين شركة الكهرباء التى تولت ادخال الكهرباء الى القرى العراقية، كان صدام يستمع دون تعليق، وعندما جاء عليه الدور باح للسعدنى بسر خطير، فقد كان هو الآخر لاجئاً سياسياً فى مصر كانت العيون تراقبه.. وذكر أسماء بعينها كانت تراقبه كظله أثناء إقامته فى القاهرة، وكيف أن «م»، الذى أصبح وزيراً بعد ذلك بسنوات طويلة. وجده وقد دخل خلسة يفتش شقته فى منطقة الدقى وكيف دار العراك الرهيب بينهما عندما تعامل معه على أنه لص منازل وهو أى صدام، يعلم تماماً أنه تابع لجهاز أمنى، وكان صدام قد طلب من السعدنى عدم نشر أى من هذه المعلومات، وقال له فى نهاية اللقاء.. أنتم يا محمود عندكم فى مصر نفس النماذج من البشر وتتعاملون مع اللاجئ السياسى بنفس المنطق وهذا يثبت أننا فى الهم «عرب» فلماذا تريد العراق ان تكون أفضل حالاً من مصر.. وضحك السعدنى من أعماق قلبه واكتشف ان صدام يعلم كل صغيرة وكبيرة من مكتب مصر، وأنه يعلم  ان المنزل الذى تقيم فيه لسنوات طويلة غير لائق للاستخدام البشرى، لذلك أمر  بتأجير منزل فخم على حساب رئاسة الجمهورية على أن يتم تأثيثه تماماً كما هو منزل صدام حسين وبالفعل لم تمض أكثر من ثلاثة أشهر  حتى كنا نقيم فى منزل أشبه بالقصر وكان الأثاث وارد ايطاليا فى منتهى الفخامة وعندما بدأت الاقامة تطيب فى هذا المكان الكائن بحى الدواوودى التابع لمنطقة المنصورة الشديدة الرقى فى العاصمة بغداد حتى استمعت الى خبر فى الصباح الباكر من اذاعة الـBBC.. يفيد بأن السادات اصيب بطلق نارى وأنه توجه الى أحد مستشفيات العاصمة المصرية للعلاج، وانتظرت طويلاً لأتصل بمكتب مصر وبالمدعو «جبار» تحديداً وقلت له ان السادات اصيب بطلق نارى في الاحتفال العسكرى بذكرى «6 أكتوبر» ويرد على «جبار» بسؤال فقال.. وين سمعت هذا الحشى!! قلت فى الـBBC، فقال: وانت تعرف إنجليزى؟! أجبته طبعاً أعرف إنجليزى.. فضحك ضحكة رفيعة ثم قال: هادى البيبى سى بتاعة مرسى الزناتى.. وده انجليزى ده يا مرسى.. ثم ذهب فى نوبة ضحك هيستيرى وأنا كدت أموت من شدة الغيظ.. وعاد ليقول.. انتظر قليلاً لنتأكد من الأمر.. أنا شخصياً  ما عندى أى أخبار تؤكد على كلامك.. ومضت ساعات طويلة قبل أن يعلم أهل العراق الخبر أولاً من الاذاعة الايرانية الموجهة الى العراق، ثم بعد ذلك من خلال أجهزة إعلامهم الرديئة ان السادات قد قتل فى العرض العسكرى.. وقد ذكرنى جبار الأهبل بحكاية حدثت للسعدنى أثناء اصداره الـ«23 يوليو» فى لندن عندما أبلغ نور السيد الأسكوتلاند يارد عن أن هناك مؤامرة لاغتياله من قبل أجهزة الأمن المصرية هو والسعدنى، وعندما قام الضابط الانجليزى باستدعاء السعدنى لسماع أقواله فى بلاغ نور السيد ضحك السعدنى من أعماقه وهو يجيب عن سؤال بخصوص استهدافه من أجهزة الأمن فى مصر.. فقال: مصر ممكن يسجنوا جوز خالتى أو يقبضوا على جوز عمتى.. يعنى مش كفاية انه متجوز عمتى.. لا.. يقبضوا عليه كمان انما مصر الرسمية تموت المعارضين ليها.. لأ.. ده مش ممكن يحصل أبداً.. أما اذا كنت صحفياً عراقياً.. ح أموت قبل ما أطلع جورنال معارض.. فسأل الضابط كيف؟! فرد السعدنى.. مجرد التفكير بينك وبين نفسك فى المعارضة فى العراق كفيل بموتك.. أما لو كنت صحفياً سورياً فأحتموت  بعد العدد الأول.. ولو كنت صحفياً ليبياً فسوف أستغرق وقتاً طويلاً وقد لا أموت الا بعد عشرين سنة!!

فحدث سرور للضابط الانجليزى وهو يقول للسعدنى.. ليبيا اذن دولة ديمقراطية.. فيرد السعدنى لا مش ديمقراطية ولا  حاجة.. بس علشان هم ما بيعرفوش انجليزى ممكن يقعدوا بيدورا على 20 سنة فضحك الضابط.. وأمر السعدنى بالانصراف!!