رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تأملات

رغم ركام الإحباطات وأجولة اليأس التى ينوء الظهر عن حملها ، تزودنا قراءة التاريخ بومضات ربما يؤدى حسن استقبالها والتعاطى معها إلى استرداد الأمل فى مستقبل أفضل لهذا الوطن.

كنت قد قرأت منذ فترة الكتاب الرائع لهنرى بريستد «انتصار الشرق القديم» وأشرت وقتها إلى مدى الفخر الذى بثه فى لصالح إحساسى بمصريتي، الأمر الذى على وقعه وعظمته بدأت أتخيل أنه ربما يكون من الصعب تخيل أن «مصرييي» هذه الأيام من نسل أولئك المصريين القدماء الذين دانت لهم الدنيا آنذاك.

عاودنى هذا الشعور الفخر بأننى مصرى أبًا عن جد، إثر قراءة كتاب آخر هذه الأيام وهو «تاريخ المسيحية الشرقية» لعزيز سوريال وهو مصرى من زفتى هاجر وأصبح علما فى مجال دراسته للتاريخ فى الخارج، وذلك رغم الروح الدينية المتشددة لتعليقات مترجم الكتاب التى ضيقت من الآفاق الرحبة لفكر  سوريال.

 فى جزئه الأول المتعلق بالأقباط يسبح معنا المؤلف فى عمق أحداث تاريخ نشأة المسيحية ودور الكنيسة القبطية فى صياغة أسس تلك النشأة بشكل يجعلك تفخر بأنك مصري، حتى أنني، وأنا المسلم دينًا، رحت أزهو بيني وبين نفسى بمصريتى مما يشير إلى أن البعد الحاكم لدى القطاع الأكبر منا ليس انتماءهم الدينى وإنما يسبقه انتماؤهم الوطني.

يشير سوريال إلى أن المصريين – الأقباط - وصلوا إلى كل قارات العالم القديم من أجل التبشير بالمسيحية. ولعل ذلك يفسر - دون أن نبعد عن الموضوع - ما ذهب إليه المستشرق برنارد لويس الذى رحل عن عالمنا مؤخرا بشأن إبعاد الصدام بين الإسلام والمسيحية تاريخيا لأنهما - حسب رأيه - الديانتان الوحيدتان ذاتا الطبيعة التبشيرية.

ما علينا.. المهم من بين عجائب ما يذكره سوريال دور الأقباط التبشيرى فى أوروبا، وأنا هنا أركز على التاريخ وليس العقائد، والذى وصل إلى ألمانيا أوائل القرن الرابع الميلادي. ووصل الأمر لحد قدوم زوار من الغرب لزيارة مصر وحمل التعاليم بشأن المسيحية إلى بلادهم..  وهنا قد لا يكون جديدًا الإشارة إلى أن نظام الرهبنة الذى انتشر فى العالم والغرب بشكل أساسى هو مصرى القواعد.. حتى أنه على جزيرة انورا أمام شاطئ مدينة كان بفرنسا يوجد دير قديم يشرح فيه الرهبان للزائرين أنهم يستخدمون نفس القواعد الرهبانية التى وضعها القديس باخوميوس المصري.

ليس ذلك فقط بل إن المرء ليعجب حين يعلم أن بعثة تبشيرية مصرية من طيبة - الأقصر - وصلت إلى سويسرا مع فرقة عسكرية من الصعيد بقيادة القديس موريس. وتمثال هذا القديس مقام اليوم فى أحد الميادين العامة للمدينة التى تحمل اسمه. ويقال إن ثلاثة من رفاقه قطعت رؤوسهم تمثل صورهم والتى بلا رؤوس الرمز المرسوم على السلاح الخاص بمدينة زيورخ.

وحتى تكتمل الصورة فإن الأكثر عجبا أن مصر كانت مهد الآريوسية كذلك والتى خاضت معها الكنيسة القبطية كفاحًا مريرًا لتطويع أتباعها رغم ما بدا من انتصار تلك الحركة من خلال ما يمكن اعتباره مجازًا وريثتها الحركة النسطورية، وهو الأمر الذى تحقق من خلال قرارات مجمع خلقيدونية فيما بدا طيًّا لقرارات ثلاثة مجامع سابقة كان أولها مجمع نيقية.

ومن تجبر المصريين وعظمتهم ومفارقات القدر أنهم كانوا مسئولين بشكل أو بآخر - وفق السياق الذى يقدمه سوريال فى كتابه - عن انتشار ما يوصف بالهرطقة سواء فى المفهوم المسيحى العام أو القبطي، فى أوروبا، حيث استطاع تلامذة اريوس الترويج لأفكارهم وسط القبائل الألمانية والبربرية والقوط والوندال فى إسبانيا.

لم يقتصر الأمر على أوروبا وإنما امتد إلى آسيا حيث تقدم الأقباط هناك  وخصوصا فى فلسطين وسوريا وكبادوكيا - آسيا الصغرى. ومما ينبغى ذكره هنا ايضا أن القديس يوجين القلزمى - السويس الحالية - هو مؤسس الرهبنة فى أرض ما بين النهرين والامبراطورية الفارسية. وإذا كان المجال يضيق عن استعراض التأثير التاريخى لريادة الكنيسة القبطية فيبقى أن نشير الى أن مدير المدرسة اللاهوتية بالإسكندرية كان له صولات وجولات عام 190م بالهند. وقد ساهم ذلك التاريخ الكفاحي، يقول سوريال، فى إعطاء باباوات الإسكندرية قوة عظمى فى مصر وفى كل العالم المسيحى حتى أنهم وصفوا، كما يذكر، بأنهم «فراعنة الكنيسة».

بعد كل ذلك، وبمنطق النظر للتاريخ من مسيرة الأوطان، ألا يؤكد لك ذلك التاريخ أننا كنا فى يوم من الأيام سادة العالم على مدى أحقاب وعصور تاريخية مختلفة؟ ألا يشعرك بالخزي أن تتأمل ما نحن فيه بما كنا عليه، إذا نحيت جانبا بعض الاعتبارات والرؤى الدينية الضيقة لدى البعض سواء على هذا الفريق أو ذاك؟ رغم كل ذلك فما علينا، كما أشرت فى البداية، سواء على وقع هذا التاريخ أو الرغبة فى البقاء، سوى التسلح بالأمل فى غد أفضل. اللهم آمين.

     

[email protected]