رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الحلقة «11»

 

كانت أم المسئول السودانى الكبير سيدة عجوزاً صحيح، ولكن لها ذاكرة شابة تحفظ كل شىء، وكأنها تملك ذاكرة فوتوغرافية.. قالت لـ«السعدنى» وللحضور ومنهم صحفيون سودانيون كبار.. تدرون ماذا كتب السعدنى فى ختام مقاله..

ويا أيتها الستات الفنانات صاحبات السمو الملكى.. إلهى تنهرشن فى سموكن. وهنا أطلق المسئول السودانى الرفيع ضحكات أعقبتها أصوات هو ومن معه.. وبعد هدوء عاصفة الضحك.. سأل أحد الصحفيين السودانيين السعدنى: هل يليق يا أستاذ ما كتبه هيكل وموسى صبرى.. إننا فى السودان لا يمكن أن نسمح لأحد بأن يسب مصر أو أهل مصر.. وأشعل السعدنى سيجاره وقال للمتحدث: يا سيدى مش عاوزك تزعل لا أنت ولا أهل السودان؛ لأن مصر والسودان بلد واحد، وعلى العموم هيكل وموسى صبرى لو كانوا شتموا السودان وأهله أنا ح أرد عليهم وأقول إن هيكل وموسى صبرى أولاد (ق).. فضحك من بالمجلس، وغادر السعدنى وحمروش السودان، وفى يوم وصول السعدنى القاهرة، وجد عشرات المكالمات من الأستاذ هيكل يطلبه لأمر هام، وبالفعل ذهب السعدنى إلى الأهرام حيث استقبلوه بالمراحب الحارة هناك.

وفى مكتب هيكل وجد ترحيباً أكثر حرارة، بل ومبالغاً فيه واستقبله الأستاذ أمام باب المكتب وبعد المراحب الحارة.. صارح الأستاذ بأنه غاضب جداً من السعدنى وأنه لم يتصور أن تلحق به مثل هكذا إهانة على لسان السعدنى.. الذى عمل نفسه مندهشاً كأنه لا يعلم سبباً لغضب هيكل.. فأخرج الأستاذ صحفاً سودانية وأمسك بإحداها وناولها للسعدنى فإذا بالمانشيت إياه.. (السعدنى يقول.. هيكل وموسى صبرى أولاد (ق). ويقول السعدنى.. الناس هناك عملت ثورة ضدك وضد موسى صبرى وضد مصر كمان يا عم هيكل فضحك الأستاذ وهو يقول.. وتقوم تخمد الثورة وتقول.. هيكل وموسى صبرى يا محمود.. وأعاد الأستاذ عبارته الأخيرة.. هيكل.. وموسى صبرى ويضحك السعدنى ويقول: لو ده اللى مزعلك علىّ الطلاق المرة الجاية ح أقول هيكل لوحده ابن (ق) وضحك الأستاذ هيكل ضحكته الصافية، فهو يعلم طبع السعدنى وسخريته من كل شىء وقدرته العجيبة على الخروج من أى أزمة أو مأزق يمر به.. وتصافى الرجلان، أو هكذا بدت الأمور.. حتى حدثت الفاجعة الكبرى برحيل مفاجئ للزعيم جمال عبدالناصر، وفى تلك الأيام كان ناصر بالنسبة لنا ونحن أطفال صغار شيئاً أسطورياً، كنا هالة أختى وأنا نحلم بأن يقوم بزيارة مدرستنا كما يقوم بزيارة المدارس الحكومية، ولم نفهم لماذا لا يزور ناصر المدارس الخاصة، وبالطبع حلمنا لم يتحقق وفى يوم وفاة ناصر كانت لدينا شغالة طيبة وارد الريف.. نزلت كعادتها لشراء احتياجات المنزل فإذا بها تعود لتخبرنا.. بأن «الأستاذ» عبدالناصر مات.. لطمت أمى على صدرها وفتحنا التليفزيون النصر، وجلسنا نشاهد المذيع الذى انحفر رسمه فى قلوبنا، وخلد صوته فى ضميرنا حمدى قنديل، وهو ينعى إلى الأمة رحيل الرئيس جمال عبدالناصر. فى ذلك الوقت كان السعدنى بصحبة المعلم الفنان محمد رضا فى لندن ومعه الحاج إبراهيم نافع الذى سافر مع السعدنى وهو يرتدى البدلة للمرة الأولى والأخيرة فى حياته وكان الرجل شديد الخجل وهو يغادر وسط أهل الجيزة مرتدياً البدلة المهم أن السعدنى والمعلم رضا اتفقا فى لندن مع الأستاذ أحمد البدينى، المسئول الكبير فى إذاعة الـBBC العرب على كتابة مسلسل إذاعى اسمه «المعلم فى لندرة»، وكان السعدنى وإبراهيم نافع وبعض العرب القريبين من السعدنى هناك سيشاركون فى التمثيلية الإذاعية، وبالفعل كتب 6 حلقات ثم حدث ما حدث، فاضطر إلى العودة، ولكن بعد رحيل ناصر بعدة أيام.. ولم نكن نعلم سر الخوتة والجلبة التى تحدث في بيتنا كل يوم.. واتصالات على أعلى مستوى بالدولة شعراوى جمعة ومحمد عروق ومحمد فايق ومكتب السيد على صبرى، أسماء كنا نعلم أصحابها تماماً ونعرف أنهم أصحاب مناصب ولكن لا نعلم شيئاً أكثر من هذا.. وحدث أن الخلاف بدأ مبكراً جداً بين الجناح الناصرى فى الحكم والرئيس المؤقت للبلاد أنور السادات أو هكذا ظن كل المسئولين الكبار أن رئاسة السادات هى فترة قصيرة يتم خلالها الاتفاق على من يخلف ناصر.. ولكن كان لوجود رجل واحد فقط إلى جانب السادات الميزة الكبرى التى مكنته من انتصار كفته على كفة كل رجال ناصر، إنه الأستاذ هيكل الذى أشار للسادات باستدعاء قائد الحرس الجمهورى السيد الليثى ناصف، ومعرفة موقفه مما سوف يجرى من أحداث جرت فى حقيقة الأمر يوم 13 مايو، وسبق الحديث فيها.. وبالطبع أبدى قائد الحرس الجمهورى خالص الولاء للرئيس السادات، وبدأت عملية اعتقالات واسعة. الشىء الغريب أن السادات الذى وقع عليه بصر السعدنى للمرة الأولى فى بيت أستاذ هذا الجيل زكريا الحجاوى بحضور صديقه عمر السعدنى طوغان ويومها كان السادات شارداً ينظر فى عالم بعيد وزمان غير الزمان، فإذا بالسعدنى يهمس فى أذنى وهو يقول.. الجدع ده مخبر!!.. ويضحك طوغان ويقول.. مخبر إيه.. الجدع ده ح يبقى ملك مصر فى يوم من الأيام، وتحققت النبوءة العبقرية لعم طوغان، وعندما أصبح السادات ملك مصر كان زكريا الحجاوى أستاذه الذى فتح له بيته أيام ما كان مطارداً فى عصر الملك.. وطوغان صديق الأيام الجميلة والسعدنى صاحبه الذى أحبه كل هؤلاء ذاقوا الأمرين فهاجر زكريا معشوقته مصر إلى دولة قطر، وذهب طوغان إلى ليبيا، وذهب السعدنى إلى السجن، ولكن سجن السعدنى بالذات كان هدفاً وغاية للرئيس السادات من جهة وللأستاذ هيكل من جهة أخرى. فقد كان لدى الأستاذ يقين لا يقبل الشك بأن السعدنى لو فاز الجناح الناصرى سوف يقفز لرئاسة تحرير الأهرام.. وبالطبع لم تكن الأهرام ولا غيرها من الجرائد أو المؤسسات الصحفية المصرية مطمعاً لدى السعدنى الذى عشق وأحب وهام فى محبوبته الوحيدة مجلة صباح الخير.

ولله الحمد اكتشفنا بعد دوخة الأرملة مكان السعدنى بعد أن فتشنا وبحثنا فإذا به معتقل فى كلية الشرطة فى موقعها الفريد القديم بالعباسية.. وكان هناك نوعية من الضباط لم أر فى حياتى مثيلاً لهم كانوا رجالاً فوق العادة لايزال بعضهم على قيد الحياة، فهم اللواء حسن حميدة الذى كان ضابطاً صغيراً فى السجن وفى الرتبة، ولكنه كان كبيراً فى مقامه وفى شعوره الإنسانى، سمحوا لنا أن نقف على الرصيف المقابل لكلية الشرطة لكى نلقى نظرة على السعدنى الذى غاب عنا لأكثر من سبعة أشهر.

ولكن من الجانب الآخر على الطريق وكانت المسافة بيننا وبين الولد الشقى تزيد على 40 متراً وكنا فى حاجة إلى الاستعانة بنظارة معظمة من أجل التعرف على الولد الشقى من هذه المسافة الشاسعة، ولأن هذا الأمر تعذر فقد كنا نخلط دائماً بين نزلاء المعتقل، خصوصاً أن ملامح البعض منهم كانت قريبة من ملامح السعدنى، خصوصاً ذلك الشبه الذى ما بين الولد الشقى والدكتور مفيد شهاب.. تدويرة الوجه هى نفسها والصلعة الخالق الناطق هى هى، ولكن عملية التمييز فى حقيقة الأمر كانت تصور لنا الدكتور مفيد شهاب على أنه نسخة طبق الأصل من السعدنى، فعندما كان يفتح الشباك المطل على الشارع الرئيسى أرقص طرباً لطلته، ولكن الرجل لم يحرك رأسه ولا يشير بيده أى إشارة تفيد بأنه فى حالة فرح أو انشكاح لرؤيتنا، وقلت فى نفسى ربما الولد الشقى المسجون فى معتقل كلية الشرطة سجنوا أيضاً مشاعره وحبسوها، ولكن الشباك المجاور انفتح فجأة وإذا بالسعدنى ممسكاً بفوطة فى يده يلوح بها، فانطلقت الأفراح وانفرجت أسارير وارتسمت ابتسامات، وسالت دموع سرعان ما تحولت إلى نحيب واختناق.. فما أقسى مثل هذه الأحاسيس على أطفال حالت السياسة بينهم وبين أبيهم، لقد شعرنا بأن السادات حرمنا فاكهة الحياة وزينتها وأجمل ما فيها على الإطلاق، وحلمنا أن نرتمى فى أحضانه ولا نفارقه أبداً، ولكنَّ الأسوار والجنود المدججين بالسلاح كانوا لهذه المشاعر والأحلام بالمرصاد.. وعلى الرغم من ذلك كان هناك ضابط شاب فى تلك الأيام استعطفته ذات يوم أن يسمح لى بأن ألقى نظرة عن قرب على الولد الشقى.. والحق أقول إن ملامح الرجل تغيرت والكيمياء داخله تبدلت ووجد نفسه أمام نارين.. نار تنفيذ الأوامر الصارمة ونار المشاعر الإنسانية التى جعلت طفلاً لا حول له ولا قوة لا يطلب من الدنيا شيئاً سوى رؤية أبيه.. لقد لمعت عينا هذا الضابط وكاد يفقد أعصابه وأنا أعيد على مسامعه رجائى بأن ألقى نظرة على الولد الشقى.. ولم ينقذه من هذا الوضع المأساوى إلا الست الوالدة عندما انهمرت دموعها على خديها وهى تحملنى لنمضى خارج مكتب الضابط بكلية الشرطة متجهين إلى الناحية المواجهة لنلقى نظرة ضبابية على الولد الشقى.. ولكن ما أثلج قلوبنا جميعاً أن ما سمعناه عن المعاملة التى يلقاها السعدنى الكبير داخل المعتقل كانت فى أفضل أحوالها، وأن هذا الضابط الإنسان هو نفسه النجم الذى سطع فى سماء العمل العام بعد ذلك لسنوات، فأصبح قائداً لقوات الأمن المركزى ثم محافظاً للمنوفية وكذلك المنيا.. إنه اللواء حسن حميدة الذى ظل وفياً لهذه الأيام التى جمعته بالسعدنى فى معتقل كلية الشرطة، وهو سلوك سنشهده بعد ذلك كثيراً مروراً بسجن القناطر ثم فى رحلة الحياة.. لقد انطبق هذا السلوك الطيب على جميع ضباط كلية الشرطة فكانوا يقاسمون السعدنى الحياة ولقمة العيش أيضاً، وذات يوم نصَّب السعدنى من نفسه قاضياً وأخذ يستوحى أسماء المتهمين ويصدر أحكامه، فطالت أحكام الإعدام الكبار من أمثال السيد على صبرى، والسيد شعراوى جمعة، والسيد سامى شرف، والفريق محمد فوزى، والسيد محمد فائق، وعندما جاء الدور على صديق عمره فريد عبدالكريم، المحامى الشهير، وأمين الاتحاد الاشتراكى العربى بالجيزة.. أصدر السعدنى حكمه عليه بالإعدام.. وهنا اعترض زملاء السعدنى من المعتقلين، وأيضاً من الضباط فكيف يتساوى الحكم على الكبار مع أمين الاتحاد الاشتراكى فى محافظة الجيزة، وهنا أخذ السعدنى يعدد أسباب الإعدام، وقال السعدنى إن السادات لا ينسى شيئاً على الإطلاق وحكايته فى الجيزة مع فريد عبدالكريم أصبحت على لسان كل أهل الجيزة.. وبدأ السعدنى يروى الحكاية.. فعندما كان السادات يقيم فى الهرم أعجبته فيللا بمنطقة الهرم كانت ملكاً لإحدى السيدات، ويقال إن السادات استطاع أن يستولى عليها، وإن تفاصيل القضية بلغت فريد عبدالكريم، ويومها أقسم فريد بأغلظ الأيمان، إما أن يخرج السادات من الفيللا أو أن يموت فريد دون ذلك، ووقف فريد بالمرصاد للسادات، وأخذ يهاجمه فى كل مكان، وبلغ السادات كل ما فعله فريد عبدالكريم وكل ما قاله بالتفصيل الممل.. وكان من رأى السعدنى -كقاضٍ- أن السادات سوف يعدم فريد عبدالكريم علشان خاطر حكاية الفيللا وموقفه منها وليس بسبب انتمائه إلى مراكز القوى، وهنا بدت على الوجوه علامات الرعب، خصوصاً وجوه المعتقلين الذين وجدوا فى مبررات السعدنى الكثير مما أقنعهم، ويمضى السعدنى ليواصل أحكامه على المستوى الثانى من المتهمين بعد أن أصدر أحكاماً بالإعدام على الصف الأول، وطعمه بفريد عبدالكريم، وهنا جاء الدور على الدكتور مفيد شهاب، بل إن شئت الدقة فإن دور الدكتور مفيد شهاب كان هو بمثابة طابور الصباح أو تحية العلم عند السعدنى، فما كان السعدنى ليقع بصره على مفيد شهاب إلا ويقول بصوت عال: «الحمد الله يا رب إحنا لا مسكنا منظمة شباب ولا اشتغلنا فى منظمة شباب، دول كلمتين قولناهم فى حق الراجل الكبير وح نطلع براءة بعون الله».. وهنا ينظر الدكتور مفيد شهاب فى أسى إلى السعدنى وهو يستفسر: «طيب واللى اشتغل فى الشباب ومسك المنظمة ح يعملوا فيه إيه يا عم محمود»؟! ويرد السعدنى: «بتقول ح.. يعملوا فيه إيه .. دى البراءة بتاعتها إعدام».. وذات يوم لم يتحمل الدكتور مفيد شهاب دعابات السعدنى وصعب عليه حاله وخانته أعصابه فأخذته نوبة بكاء عنيفة، ولكنه أدرك بعد ذلك أن المجال المغناطيسى للسعدنى لا يمكن مقاومته، وإنه حتى إن كان كلامه قاسياً فهو فى شدة القسوة لا يبغى سوى السخرية من الأوضاع التى وجد نفسه فجأة محاطاً بها والتحقيقات التى كانت تؤكد أن المسألة ليست بسيطة على الإطلاق، وخُطب السادات التى كان يتوعد فيها الجميع بالمفرمة.. لقد كان السعدنى نفسه واقعاً تحت ضغط عصبى رهيب، وهو لا يجد فى تلك الأوقات الحرجة مفراً سوى السخرية من كل شىء حتى من نفسه، وأما الضغوط التى وقعت على السعدنى فقد كان أخطرها على الإطلاق وجوده محبوساً بين أربعة جدران ممنوعاً من العط ومن الفط، فهو لم يكن من النوع الذى يخلد إلى الاستمتاع بمكان والبقاء فيه ولكن متعة السعدنى الحقيقية كان الإبحار فى المكان وفى الإنسان، فهو عاشق لاختراع أصناف من البشر يكتشف فيهم خبايا لم تنكشف لأصحابها أنفسهم، وكانت رحلات السعدنى لا تتوقف سواء داخل مصر أو خارجها، بل إن هذا الأمر أدركه السعدنى منذ صباه المبكر فهو سجل تلك الحالة الفريدة لعشق البشر وعشق السفر فى كتاب الولد الشقى الجزء الأول عندما يقول عن معشر من البشر كان يعبر حارة سمكة التى تربى بها فى أعماق الجيزة.

كان موكب عجيب يعبر حارتنا كل صباح مكوناً من خمسة رجال أصحاء فى منتهى القوة ليس معهم شىء سوى شيلة صغيرة من الكعك يهتفون معاً بصوت منغم ورخيم وقوى: «ستين كحكة بقرش أبيض».. وكنت أتعجب لهذا الجيش الجرار من الرجال الأقوياء الذين يحملون الشيلة التى أستطيع حملها وحدى وكنت أتفرج عليهم وأشترى منهم أحياناً وأتمنى من صميم قلبى أن أسرح معهم أبيع مثلهم لأكون حراً بعيداً عن رقابة أمى التى تلاحقنى كالديدان!!».

ولم يكن هؤلاء الرجال وحدهم الذين خلبوا لب السعدنى وجعلوه يتمنى أن يلحق بركبهم، ولكن- وكما يقول الولد الشقى: «كانت هناك بنت غجرية تحضر إلى حارتنا بعد العشاء وتقف على كل باب ومعها رق تضرب عليه وتغنى بصوت لم أسمع أجمل منه فى حياتى، وكانت البنت جميلة ترسم على ذقنها وشماً وكان صوتها يسيل حزناً وكأن حنجرتها جرحاً يسيل، وكنت أتبعها ساعات طويلة وهى تخرج من بيت إلى بيت ومن حارة لحارة حاملة شوالاً ضخماً على كتفها ممسكة فى يدها بلقمة جافة تقضم منها كلما كفت عن الغناء، وكانت أمى كلما عدت بعد رحلة مضنية خلف هذه البنت تصرخ فى وجهى: «أنا عارفة عاجبك إيه فى البنت الغجرية.. عاجبك نواحها.. دى بتنوح»!!.. كانت أمى صادقة، فالبنت كانت تنوح وكان نواحها جميلاً ولذيذاً، وكانت أمى تحذرنى من المشى وراءها؛ لأنها غجرية وأنها ستسحبنى يوماً وتسرح فى بلاد الله.. وكان هذا الخاطر يطوف بى فأتمنى لو تحقق تحذير أمى وسحبتنى هذه البنت الغجرية لأتفرج على بلاد الله.. فلم أكن فى هذه السن قد خرجت خارج حدود الجيزة.. وكنت أتخيل البلاد الأخرى شجراً وحدائق ومخاليق مثلنا يقيم كل منهم فى طبق.. صورة غريبة رسمها السعدنى فى خياله الخصب، وهو نفس الخيال الذى اتسع بسقف حبه للناس وحبه للمكان وعشقه للحرية ورغبته الدائمة فى التسكع فى بلاد الله والتعرف على خلق الله.. إنه الخيال الذى قال عنه كامل الشناوى.

«أعتقد أن خيال محمود السعدنى هو أقوى ما فيه، فهو إذا كتب أو تحدث أضفى على ما يكتبه وما يقوله صوراً يستمدها من خياله، وهو خيال أوسع من عقليات العلماء ومن ذم المرابين!!».

ولكن هذا الخيال وتلك الرغبة العارمة فى سبر أغوار المكان والإنسان وجدت نفسها فجأة حبيسة غرفة لا تتعدى الأمتار الخمسة، وكان على السعدنى أن يحول هذه الأمتار الخمسة إلى دنيا فسيحة فأطلق لخياله ولسانه العنان لكى يعيش حياة عريضة داخل هذه الزنزانة التى تحولت إلى خرم الإبرة الذى يرى السعدنى فيه بصيص نور يطل منه على الحياة.

وصحيح ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.. أما الأمل الأوحد الذى راود السعدنى فى تلك الأوقات فكان صداقته للسادات والذكريات التى جمعت بينهما منذ اللقاء الأول فى بيت الصديق المشترك ورفيق الصبا طوغان والأستاذ المشترك للطرفين زكريا الحجاوى وأيام عملهما معاً فى جريدة الجمهورية.. لقد استعاد السعدنى ذكرياته الجميلة والمؤلمة مع السادات وتصور أن الرجل سيصفح عنه ويكتفى بأيام المعتقل التى بلغت سبعة أشهر بالتمام والكمال.. ولكن يبدو أن أمل السعدنى تبدد وأن الأسى داخله تمدد!!