رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

على فكرة

برغم أننى كنت أدرك بحكم المعرفة، ومن قبلها التجربة الأسرية المريرة، أن المعركة النهائية مع مرض الفشل الكبدى مآلها الخسران والفقد، لكننى لم أتوقف لحظة عن الأمل، فى أن يتجاوز أخى وصديقى فكرى النقاش مرضه، الذى حمله معه هو وأشقاؤه الراحلون من ريف مصر إلى المدينة، التى هاجروا إليها بحثاً عن العلم والرزق، شأنهم فى ذلك شأن ملايين المصريين الذين منحهم النهر عوامل الحياة والموت فى آن واحد، حين تقوقعت ديدان البلهارسيا فى مياه النيل منذ قدماء المصريين، واستوطنت أكبادهم منذئذ، كلما سبحوا فى مياهه وترعه ومصارفه، فيصابون بفيروس «سى» الذى يؤدى إلى تليف الكبد وإيقاف وظائفه الحيوية. بين استفاقة وأخرى من غيبوبته الكبدية، كان فكرى يبدأ فى حكاياته التى يستقيها من مخزون ثقافته العميقة، ومن ذكريات طفولتنا القاسية إلى واجهناها بالتحمل والصمود والقناعة التى أمدتنا برغم القسوة، بساعات من المرح والفرح واللهو الطفولى، تمكننا الآن أن نغترف معًا من ذكرياتنا المشتركة. لا تستطيع الذاكرة أن تسعفه لاستكمال حكايته، فأبدأ باستكمالها، بينما تعلو وجهه الشاحب ابتسامة خجولة، تتحول إلى قهقهات من ذكريات معاركنا الطفولية التافهة، ترتج معها عضلات بطنه المنتفخة بالاستسقاء ونظرات رجاء، لا تجد استجابة من الحياة، ثم يأخذ فى الابتعاد عنى فى ظلام غيبوبة كبدية جديدة، فيلف الصمت روحه التى تكافح من أجل البقاء.

قد يظن القارئ أننى أحدثه عن موضوع شخصى وأشغله بما يعنينى وحدى، لكن قصة فكرى هى نفسها قصة كل هؤلاء الملايين الذين يصاب واحد من كل خمسة بينهم بفيروس «سى» ويحمل نحو 55% منهم المرض دون أن يعرفوا أنهم مصابون به، ثم يكتشفه بعضهم بعد ذلك بالمصادفة فيشفى منه أو يشقى به ويموت. وأخيرا بعد شقاء المرضى وعذابهم وقلة حيلتهم ومواردهم وتحملهم لذل المرض وإهانته، أفاق الوطن بعد طول غياب وطول ظلم وإهمال، وأخذ فى بذل جهد وعناء عظيمين لإبرائهم من هذا المرض القومى اللعين وتداعياته القاتلة. هذا فضلا عن أن فكرى النقاش كان شخصية عامة، وواحداً من الرواد الأوائل لجيل شاب همام آمن برسالة الثقافة الجماهيرية وضرورتها فى بناء بلد فقير ونامٍ مثل مصر، فعمل وهو طالب فى الثانوية العامة موظفا بها، وأكمل دراسته العليا وهو يعمل وسط صفوفها على امتداد أكثر من 35 عاماً، فى ظروف شاقة، لكن ملهمة، هو وجيل كامل لم تكتب قصته المبهرة الحقيقية حتى اليوم. فقد أضاء هذا الجيل ظلام مدن وقرى ريف الجمهورية، وهو يجوب على مدار العام بالقوافل الثقافية مناطق المحافظات النائية، تنفيذاً لرؤية وزير الثقافة البناء العظيم الفنان «ثروت عكاشة»، الذى كان قد تمكن من أن يدرج فى الخطة الخمسية الأولى مشروعه الخلاق للتوسع الثقافى، لينطوى على إقامة قصر للثقافة فى عاصمة كل محافظة ليصبح واحة فكر وفن تتألق بامتداد الوطن كله، وتشكيل القوافل الثقافية لتطوف ببقية قرى المحافظة، وإرسال بعثات للخارج لتدريب عناصرها كموجهين ورواد ثقافيين، وإكسابهم خبرة التعامل والوصول والتأثير فى الجماهير، فنجحوا فى تشييد جسور معها، مزجوا خلالها بين السياسى والثقافى باقتدار وكفاءة، فساهموا فى تغيير وجه الحياة فى الريف المصرى آنذاك، قبل أن يأتى الطوفان، ليحولها بدعم من سلطات رسمية، إلى مراكز للدعوة الدينية ممن نصبوا أنفسهم حراسًا للفضيلة، ومكاتب للدعاية والإعلام لسياسات لا تحظى بأى قبول جماهيرى!

كان الموت يحوم حول فكرى وهو يطلب منى أن أسأل طبيبه متى يتمكن من الخروج من المستشفى ويتعافى؟ إنه التدين الصادق والثقافة والمعرفة هى التى أمدته دومًا بتفاؤل دائم، وقناعة بحظوظ قليلة عاكسته فى الحياة، برغم موهبته الإبداعية الكبيرة. وهى نفسها العوامل التى رسمت معالم شخصيته المتسمة بالحياء، والحس المرهف، وطيبة القلب ونقاء الروح، والاعتداد بالنفس والترفع عن الصغائر، ونبذ المظاهر، التى يخفى بها البعض خواء نفوسهم.

حين وضع الأطباء جهاز التنفس الصناعى على وجه أخى، أدركت أن الحياة لن تسمح لنا بفرصة أخرى لمواصلتها معاً، وأن رحلة الألم من فراقه قد بدأت، قبلت وجنتيه ويديه، وحين غادرت باب المستشفى تطلعت إلى السماء أدعو له بالرحمة وأشكر الله أن من على بصحبة إخوته، وأدعوه بحرقة مبللة بالدموع أن يصون أهل بلدى من بؤس الأمراض وذل ألمها، وأن يحميهم ويحميها من كل أشكال «التنفس الصناعى». اللهم آمين.