شوفها صح
بحكم السن.. فقد قدرته على السمع بشكل شبه كامل.. حفيده أحضر له من ألمانيا «سماعات للأذن» تعينه على سمع ما تعذر سمعه.. لكنه رفض بشدة، عم صلاح.. ظل السنوات العشر الأخيرة من عمره ينصت لكل من حوله.. مشاكل الناس وهموم البلد.. وكلام كل من «هب ودب» في أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع الى أن قرر أن يغلق أذنيه للأبد.
الأطباء قالوا: إنه لم يصل لمرحلة الصمم التام ومن الممكن جداً الاستعانة بالسماعة فتحل المشكلة بسهولة.. لكن شيئاً في عقل الرجل حفزه على أن يرى العالم من حوله دون أن يسمعه ربما اكتفي بما قد سمع على مدى سنوات عمره الطويلة.
الرجل كان يشغل منصباً مهماً في وزارة التعليم.. لكن مهنته الأساسية كانت.. التدريس تخرج من تحت يديه طلاب مازالوا الى الآن يحتفظون بما ادخره في ارواحهم من حب وتقدير وامتنان قال لي: كثير من تلاميذي يزورونني الى الآن «في دار المسنين» التي اخترت قضاء ما تبقى من عمري بين ارجائها «اختيارياً» بعدما فقد اثنين من ابنائه تباعاً.. لكنهما تركا له احفاداً «هجروا البلد» وهجروه احدهم فقط يزوره «كل كام سنة»، كنت أحدثه فكأنما اصرخ ليسمعني فيضحك ويقول «بتزعقي ليه هو أنا أطرش»؟!
بين الحين والآخر يحلو له أن نتحدث سوياً حتى ولو بدا الحديث أشبه بـ «خناقة» حدثني عن قناة السويس الجديدة.. رغم أنه قد قطع على نفسه عهداً بعدم الكلام فلي أي موضوع يستدعي نقاشاً.. فقط أراد أن يقول لي.. عارفة القناة دي سمعتنا احلى اغاني في حب مصر.. وكان فيه زمان زي برنامج غنائي اسمه «قصة القنال» لحن واحد، الجيل الجديد ما يعرفشي قيمته اسمه أحمد صدقي وكلمات مرسي جميل عزيز، يغني فيها محمد قنديل وحورية حسن، وفيه أوبريت اسمه «مهر العروسة» تأليف عبد الرحمن الخميسي وألحان بليغ حمدي يحكي قصة القناة من ساعة الحفر لغاية التأميم.. وفيه أغاني لعبد الحليم «النجمة مالت ع القمر فوق في العلالي».
تركته يتحدث ويتحدث واسترعى انتباهي أنه يتذكر كلمات أغنيات لم أسمع بها من قبل.. لكن المعاني كانت عظيمة وكل مرحلة في القناة كانت لها أغنياتها المعبرة عنها.
«عم صلاح» يسمع الأغنيات كأنها ترانيم «في داخله» تحمل ذكريات يحكي منها ما يريد وقتما يريد.
ابتسم العجوز وقال: «عارفة أحلى أغنية اتعملت للقناة كانت إيه؟» فأجبته بصوت «مرتفع»، والله كلها حلوة يا عم صلاح، فقال: أحلاها أغنية الفنانة العظيمة سعاد محمد «مركب رايحة ومركب جاية.. والفرحة بترقص ع المية»!