رحيق مختوم
مبخوت من عفّر قدميه بزيارة مسجد القبلتين أحد أهم الآثار النبوية فى المدينة المنورة الذى يأتى فى المرتبة الثالثة بعد المسجد النبوى، ومسجد قباء، وتكمن قدسيته الروحية فى انه شاهد على تحويل القبلة، فقد كان سيد العرب والعجم يصل رحمه فى أخواله من بنى النجار ثم يدلف على أم بشير الخزرجية فى حى بنى سلمة التى كانت تصنع له طعامًا شهياً، فلما جاء وقت صلاة الظهر صلى شطره قبل بيت المقدس والشطر الآخر قبل الحرم المكى بعدما نزل عليه جبريل الأمين بالبشارة وهو قائم فى الصلاة فاستدار على الفور فرحاً ناحية أحب البلاد اليه، وكان قبل الهجرة يصلى بمكة متوجها إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه، فلما استقرّ بالمدينة لم يمكنه أن يجمع بينهما فصلى إلى بيت المقدس أول مقدمه المدينة واستدبر الكعبة وكان هذا يؤذيه كثيرا فمكث على هذا الحال ستة عشر شهراً ويهود المدينة يعجبهم توجه نحو قبلتهم لذا انكروا عليه تغيير القبلة فكانوا يؤذونه بألسنة حداد ويتقولون عليه ويشيعون ان محمداً لا يسعه إلا أن يتبع قبلتهم فلماذا يجب عليهم أن يدخلوا الاسلام وهو ما أزعج النبى والذين معه و فى ذلك ذكر ابن كثير رحمه الله: ان النبى كان يحب أن يصرف قبلته نحو قبلة أبيه إبراهيم، لذا كان يكثر الدعاء والتضرع والابتهال إلى الله لكى يعطيه قبلة يرضاها، فرغبته الشديدة شغلت عليه عقله ووجدانه وتفكيره، وأصبح لأجلها يقلب بصره فى السماء، فاستجاب له ربه وحقق مراده، فأنزل الله قوله (قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام) وأول صلاة صلاها كانت يوم 15 شعبان من العام الثانى للهجرة وهى صلاة العصر واللافت هو ردة فعل المؤمنين الذين لم يسمع أكثرهم بتحويل القبلة فخرج صحابى ممن صلى مع النبى فمر على جمع من المسلمين و هم راكعون، وقال اشهد بالله لقد صليت مع رسول الله قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت الحرام دونما أى تشكيك او جدال.
تحويل القبلة ليس محض ذكرى سنوية تمر أو حادثة مكررة نروى تفاصيلها، بل محطة مهمة فى تاريخ هذا الدين الحنيف نستخلص منها العبر، و فرصة سانحة للتدبر أمام دروسها العظيمة والتفكر فى حكمتها البالغة ذات أبعاد كثيرة، فهذه نعمة عظيمة من نعم الله السابغة وتربية إلهية حكيمة فى صورة اختبار حقيقى لتمحيص للنفوس لكى يميز الخبيث من الطيب، واولئك هم المتقون حقاً، فقبلة الهدى ودين الحق أصبغت خصوصية ميزتهم عن أهل الكتاب لانها كلمة الوحى الاخيرة إلى الثقلين، فهذا النبى العربى خاتم المرسلين هو أولى الناس بابراهيم الذى لم يكن يهودياً ولا نصرانياً وانما حنيف مسلم فهو الذى سمانا المسلمين بعدما رفع قواعد البيت هو والذبيح اسماعيل أبوالعرب، مكة او بكة تلك البقعة المباركة تعنى الكثير للمسلمين عامة وللعرب خاصة، فهى ركن التوحيد الأكبر ورمزهم الأعظم وسبب لتأليف قلوبهم وجمعهم تحت راية الإسلام، تخيل ما حكمة الركن الخامس وهو الحج ما لم تتحول القبلة وهو ما جعل الجزيرة العربية محور الاحداث الدينية والسياسية فيما بعد.