رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

الدولة المدنية ورد الفعل الأصولى -2 جماعة الإخوان (1)

-1-

نقل حسن البنا عن رشيد رضا موقفه السلفى المتصالح جزئيًا مع الحداثة السياسية. وهو موقف يعبر عن تكوين فكرى هجين، مفهوم عمومًا فى مناخ الارتباك الثقافى الذى يصاحب مراحل التحول الاجتماعى الواسع. يخفى هذا الموقف إعجابًا مضمرًا بالحداثة، ونزوعًا براجماتيًا تحركه دوافع سياسية مباشرة، لكنه يظل «سلفيًا» وهو يسعى إلى تسكين الدولة الحديثة داخل قوالب النظام التراثى الاسلامى.

تم ذلك بشكل انتقائى، ومن خلال عملية إعادة تأويل متعسفة لمفردات الحداثة والتراث معًا؛ فالديموقراطية مثلًا تندرج تحت مصطلح الشورى، الأمر الذى استلزم تعريفًا للديموقراطية يتسع للمعنى الثيوقراطى، وتعريفًا للشورى يتسع لمعنى المشاركة الشعبية وبشرية التشريع. وكلاهما تعريف مضلل؛ الأول لا يقبله الفكر المدنى الحداثى، والثانى لا يقبله الفكر الأصولى المتشدد. ولذلك لم تنتج هذه العملية أكثر من نسخة سطحية مشوشة لنظرية الدولة، فضلًا عن صبغ الأداء السياسى والحركى للإخوان بالاضطراب والتردد.

-2-

يعلن البنا أن «المبادئ الأساسية للحكم الدستورى متفقة، بل مستمدة من نظام الإسلام»، ويشرح ذلك بقوله «إن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستورى التى تتلخص فى المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات. هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده فى شكل الحكم. ولذلك يعتقد الإخوان أن نظام الحكم الدستورى هو أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله إلى الإسلام».

فى هذا النص يتجاهل البنا- عمدًا- جوهر التناقض بين النظام الدستورى الحديث والنظام الإسلامي؛ وهو يقدم تلخيصًا «قاصرًا» لمبادئ النظام الأول، ويخلط فى خصوص الثانى بين القيم الكلية الواردة فى النصوص، والنظرية السياسية التى قننها « الفقه» ترجمة للأمر الواقع فى عصور التدوين. المبادئ الأساسية للحكم الدستورى لا تقتصر على هذه القواعد العامة التى تعالج مشكل الاستبداد الأوتوقراطى، والتى يمكن ردها إلى الكليات الأخلاقية المشتركة فى جميع الديانات والفلسفات السياسية. ويقوم الحكم الدستورى الحديث على مبدأين أساسيين؛ القانون، والمواطنة أى على «وضعانية التشريع» ( = التشريع صلاحية بشرية/ عملية اجتماعية متغيرة)، و «علمانية» العلاقة بين الدولة ورعاياها ( = المساواة فى المراكز القانونية للأفراد بغض النظر عن الدين). عند هذه النقطة يتناقض الحكم الدستورى جذريًا مع النظام الإسلامى بوصفه نظامًا ثيوقراطيًا يجعل التشريع صلاحية «إلهية» مطلقة أى حصرية ومؤبدة، ويجعل علاقة الدولة بالأفراد علاقة دينية. ولذلك فإن الفكر الإسلامى قد يستطيع نظريًا الالتفاف على المشكل الأوتوقراطى عن طريق التخلى عن «الفقه» والاستناد مباشرة إلى النصوص الكلية ذات الطابع المطلق، لكنه يواجه صعوبات حقيقية فى تجاوز «المشكل الثيوقراطي» الذى يكمن فى بنية الديانة كما تطرحها المدونة الرسمية.

لكن الوعى الأصولى لم يتخل كليًا عن الفقه.

ينكر هذا الوعى بجميع أطيافه مضمون المشكل الثيوقراطى، أى ينكر على الحداثة السياسية حق النقاش حول «أبدية» القانون. الذى يجب أن يكون كذلك بحكم مصدره الإلهى المفترض. إلاَّ أن الفكر الإخوانى بتكوينه المهجَّن ودوافعه العملية، يقبل بمحاورة الحداثة، والالتقاء معها فى منتصف المسافة، خلافًا لتيارات الفقه السلفى الأكثر تشددًا، والتى ترفض بتكوينها الأحادى النقلى مبدأ النقاش حول «الثوابت الشرعية»، وتنكر من حيث الأصل وجود مشكل فى الثيوقراطية ( الثيوقراطية هى الدين، ولتذهب الحداثة إلى الجحيم).

فى هذا الإطار يلزم قراءة الطرح النظرى والأداء السياسى للإخوان فى مسألة القانون والشريعة، وحول الدولة الدستورية بوجه عام؛ الطرح النظرى توفيقى غامض، والأداء السياسى يتسم بالمراوغة والتردد بين الإنكار العلنى والتقية، وكمثال واضح يمكن مناقشته الموقف الإخوانى المتذبذب من فكرة «الأحزاب» والمشاركة فى التعددية السياسية.

-3-

مع تسليمه «بالمبادئ الأساسية للحكم الدستوري» رفض البنا فكرة الأحزاب السياسية من حيث المبدأ، وبنى رفضه على الحيثيات الآتية: «أعتقد أن الإسلام وهو دين الوحدة فى كل شيء، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح والتعاون الصادق بين بنى الإنسان جمعيًا فضلًا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد، لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه. والقرآن الكريم يقول: «واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا». ويقول رسول الله عليه السلام «ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هى الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين». يواصل البنا:«كل ما يستتبعه هذا النظام الحزبى من تنابذ وتقاطع وتدابر وبغضاء يمقته الإسلام أشد المقت ويحذر منه فى كثير من الأحاديث والآيات. وفرق أيها الإخوان بين «الحزبية» التى شعارها الخلاف والانقسام فى الرأى والوجهة العامة فى كل ما يتفرع منها، وبين حرية الآراء التى يبيحها الإسلام ويحض عليها، وبين تمحيص الأمور وبحث الشئون والاختلاف فيما يعرض تحريًا للحق، حتى اذا وضح نزل حكمه على الجميع سواء كان تابعًا للغالبية أو للإجماع، فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة ولا يرى القادة إلا متفقين» (مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين 1358 هـ.).

بعيدًا عن لغة الطرح الخطابية- التى تشير إلى ثقافة «تقليدية» ساذجة، وتكشف عن غرض سياسى تحريضى – ما يستدعى النقاش فى نص البنا هو فهمه الخاص لمعنى الحزبية السياسية، ومرجعيته التراثية الفقهية التى تكمن وراء هذا الفهم:

ينظر البنا إلى الحزبية على أنها محض شقاق وافتراق معيب. لا يتعلق الأمر بالتجربة النيابية المصرية حصرًا، بل بفكرة الحزبية عمومًا ومن حيث المبدأ. وهو لا يقدم هذا الفهم كرأى سياسى مطروح للنقاش، بل كحكم «شرعي» مسند إلى الله. لكنه لا يقدم أدلة كافية على هذا الإسناد من خلال الآيات والأحاديث التى يستشهد بها، فهذه الآيات والأحاديث لم تصدر لمعالجة الاختلاف الطبيعى بين وجهات النظر داخل المجتمع، بل لنبذ الصدام والتقاتل بسبب الدين، أى أنها «ليست نصًا فى الباب بحسب المصطلح الدارج فى أصول الفقه التقليدية. الاعتصام بحبل الله لا يعارض تعددية الرؤى التى تعكس «واقعة» التنوع الطبيعى فى الاجتماع.

بوصفها كذلك، تحظى «التعددية» بموقع مركزى فى الوعى الحداثى، وبوجه خاص داخل الفكر السياسى الليبرالى الذى ينظر إلى الديموقراطية النيابية كآلية مقبولة «لإدارة» الاختلاف الناجم عن التعددية، بغرض التخفف من أعراضه السلبية، أى بغرض منعه من الوصول إلى الصدام والعنف، وهو مفهوم مغاير تمامًا للمفهوم المثالى الساذج الذى يتصور إمكانية رفع الاختلاف كليًا من الواقع، أى خلق حالة مستحيلة تسمى «الإجماع».

تنتمى حالة الإجماع إلى ثقافة العصر الوسيط، الخاضعة عمومًا لهيمنة الروح الدينى بلاهوته الحصرى، وحكومات الأوتوقراطية ذات الطابع الشمولى. وهى ثقافة موروثة من تاريخ الوعى البدائى الطويل، حيث ظلت الذات الفردية تعمل على الدوام من خلال أطر جماعية سلطوية قابضة (العائلة/ العشيرة/ القبيلة/ الدولة/ الكهنوت/ المذهب) وهى الأطر التى تقلصت سلطتها – بفعل الحداثة- لصالح التعددية الفردانية.

 واضح أن البنا يرفض الحزبية بمنطق الإجماع الذى ينكر حقيقة التعددية. سياسيًا، لا يترجم الإجماع فى نهاية التحليل الا فى شكل حكومة «شمولية»، وهو ما أدت إليه بالفعل تحليلات البنا للنظام النيابى، الذى انتهت إلى تقريظ نظام «الحزب الواحد» وتفضليه على التعددية الحزبية؛ يشرح البنا: «النظام النيابى بل حتى البرلمانى فى غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة فى مصر، وإلا لما قامت الحكومات الائتلافية فى البلاد الديموقراطية. فالحجة القائلة بأن النظام البرلمانى لا يتصور إلا بوجود الأحزاب واهية. وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد، وذلك فى الإمكان.»

وواضح أنه يصدر فى ذلك عن ثقافة التراث الحصرية التى كرسها الفقه وتاريخ الدولة فى الإسلام. فهو لا يزال يستصحب مفردات ومصطلحات «السياسة الشرعية» والمصممة على النموذج الأوتوقراطى القديم؛ يقول البنا: «كما يعتقد الإخوان أن هناك فرقًا بين حرية الرأى والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة، وهو ما يوجبه الإسلام، وبين التعصب للرأى والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام فى الأمة وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية». لا يتكلم البنا عن «سلطة الدولة» بل عن «سلطان الحكام»، وهو لا يناقش فكرة «المعارضة» التى تمارسها «مؤسسات» سياسية مقابل الحكومة، بل يشير إلى «الإبانة، والإفصاح، والشورى، والنصيحة» التى تقدم للحاكم. وفى النهاية لا تعنى الحزبية أكثر من «التعصب للرأي» الذى يؤدى إلى «زعزعة سلطان الحاكم».

-4-

عمليًا، وطوال الوقت، لم تكن جماعة الإخوان أكثر من حزب سياسى متنكر، ومع تفاقم حضورها صارت تعمل فى إطار «المنافسة» مع بقية الأحزاب على كسب الشارع السياسى (وفى هذا الإطار يمكن قراءة موقف البنا من الحزبية كوسيلة لهدم شرعية الخصوم) لكن البنا ظل يقدم الجماعة بلغة الخطاب الدينى ككيان أعلى من الأحزاب السياسية، يملك الحق فى إرشادها أو فى إزالتها من الوجود بما هو متحدث باسم الله. يخطب البنا:«أيها الإخوان أنتم لستم جماعة خيرية، ولا حزبًا سياسيًا، ولا هيئة موضوعة لأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسرى فى قلب هذه الأمة فتحييه بالقرآن، ونور جديد يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله..».

فى المحصلة النهائية أدى هذا الموقف الخطابى إلى صناعة «قوة سياسية» تمتلك آليات الأحزاب، وتزاحمها فى سباق المنافسة على الجمهور، لكنها لا تلتزم بقواعد اللعبة السياسية كما يحددها الدستور والقانون، فتمنح نفسها الحق فى ممارسة العمل السرى وإنشاء تنظيم داخلى مسلح يعمل ضد الدستور والقانون ومبادئ الدولة المدنية.

 يتبع...