رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

نداء القلم

 

 

 

عطرُ الأحبار كعطر الأحباب: جمالُ تستنشقه الروح، لكنه يعز. ليس فى المقدور أن ينال فى كل حال، ولا فى أى حال. مَنْ ينال عطر الروح يتألم ويعانى. والمعاناة ليست حالًا دائمة وكذلك الألم. إن الصبابة التى تنبعث من الألم هى غصَّة روحيّة يكابدها من يعانيها، ومَنْ يتذوق الجمال الذى تدركه الروح يتذوق فى الوقت نفسه نسمات عطره الفوَّاح برائحة طيبة زكية تتجاوز الأبدان لتنفذ إلى أعماق القلوب.

هذه الرائحة العَطرة الزكية هى الرائحة التى يتذوقها من يعانى تجربتها؛ العطر هنا هبة موهوبة تهبُّ عليك فيضًا من نسمات الروح الزكية، فكما أن للعطور المادية أشكالًا وألونًا؛ فكذلك عطور الروح هى أصناف وألوان: كلُّ يألف اللون الذى تستقبله روحه وترتضيه، على ديدن التذوق وصبابة العشاق؛ فالذى يتذوق شذى نوع ما من العطور، يتنسَّمه ويرتضيه: يتذوَّقهُ؛ لا يلزمك أن تصرفه إلى غيره؛ فليس فى مثل هذا التذوق إلزامُ من خارج، وكذلك عطور الأرواح هى أعلى فى الخصوصية وأخص فى الدلالة، لأنها صادرة عن معاناة صاحبها، مستمدة من تجربته الخاصة المخصوصة به وحده دونًا عن سواه؛ فليست من هنا ملزمة لأحد، ولا من حق أحد أن يفرضها على أحد.

فما يصدرُ عن الروح هو عطرها الخاص يميزها فتمتاز به عن غيرها؛ فلا تتشابه ولا تتشاكل مع هذا الغير لا فى رائحة ولا فى شذى ولا فى لفتة ولا فى ملمح ولا فى خصلة من خصال التفرُّد والامتياز.

طول التعامل مع الشيء يجعلك تألف أسراره. لا بل قد يكشف لك عن أسراره ما دُمت قد ألفته وألفك؛ فتلك معرفة بعد الألفة لا قبلها. المعرفة هنا ليست متاحة ولا هى ميسورة بمُجرَّد العبور عليها عبور الكرام. لكن يلزم أنْ تألف طريقها أولًا، ثم بعد الألفة تجيء المعرفة؛ لتأتى على التوالى مرحلة الكشف عن السرِّ الكامن فيها. هذه معرفة نوعية، خاصَّة إلى أقصى درجات الخصوصية، لأنها من مصدر الذات العارفة، ومن امتيازها وتفردها، ولا تمتاز الذات ولا تتفرد ما لم يكن فيها سر دفين هو على الأصالة قوام توجهاتها المعرفية.

الشيء الذى تألفه فتدركه قد تصيبك منه رائحته، تصيبك فى روحك، وفى قلبك، وفى أعمق أعماقك؛ لترى عطره الفوَّاح يجود عليك فيما لا يستطيع أن يجود عليك به شيء آخر سواه.

ماذا أقول؟.. فهل من حقى أن أقول إن الذين تبتلوا فى خدمة الكلمة، أستنشقوا رائحة الحبر الذى استخدموه وكتبوا به على الدوام لتجيء: نفَّاذة مليئة بالمعاناة؛ كرائحة المعاناة نفسها التى يعانيها القلم حين يكتب، وما أمتلئت لديهم بالمعاناة إلا لأنها ملآنة على الدوام بالمعانى، مُترعة بفيض عجيب يذاقُ ويصفو فى عالم التجريب.

سهلُ جدًا أن ينطلق لسانك بما تفيض به جوانحك من مشاعر وأحاسيس، لكن هذا كله شيء، والمعاناة شيء آخر. هذه المعاناة هى فى الواقع تاريخ يحمل تجربة، فتحمل التجربة تذوقًا، فيتولدُ عن التذوق شذى يعطى رائحة، فلست تعرف أيَّا منها هو الأعلى أو هو الأدنى، كلها درجات عالية متساوية فى الشعور وإنْ كانت متباينة فى الإدراك.