رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مكاشفات

أكتب اليوم عن فئة من الناس لم يذكرهم أحد، أو بقول أقرب للحقيقة لم يشعر بمرارة انهزاماتهم أو ذل انكساراتهم أحدٌ، أناسٌ آثروا الصمت وفضّلوا الانزواء بعيدا عن كل شيء، لعلّهم فى البعد يسلمون أو يصلون لمبتغاهم أو أن يلتمسوا رجاءهم المسلوب. إنهم المنسحبون!

والمنسحبون هم أناسٌ كانوا فى ماضيهم أفرادًا يملؤون الأرض مرحًا وصراخًا، حياتهم مليئة بكل معالم الابتهاج والسرور، فالارتياح بات ساكنًا فى ملامحهم الطيبة، والبشاشة علامة مميزة لشفاههم، أما حب الناس والانخراط معهم أو مساعدتهم فكان أساس خصالهم وغاية وجودهم، باختصار كانت حياتهم ملونة بألوان الطيف السبعة.

ولكن دوام الحال من المحال، فانقلب حالهم وتغيرت أحوالهم، فالألوان أُعتمت وتبدلت إلى لون واحدٍ أدهمٍ فحيم، والفرحة اختفت وتحولت إلى أسى وهمٍّ عميقين يضربان بجذورهما فى أعماق النفس المعذبة، أما البشاشة فباتت أملا صعب الوصول إليه، والراحة تمنيًا تتوق النفس إليه، وحتى الخلود إلى النوم بات حلمًا عزيز المنال.

أما عن سبب تحولهم من الحياة إلى الموت، من الانخراط إلى الانزواء، من الوجود إلى الاختفاء، من البقاء إلى الهروب، هو الاصطدام بواقع أليم، ارتطمت أحلامهم الحرة المشروعة على صخوره الصلدة العنيدة، تطايرت أمنياتهم البريئة البسيطة مع رياحه العاصفة الشرسة، وتناثرت فتات مآربهم النزيهة وسط أمواجه المتلاطمة الهائجة فى بحاره السحيقة الغائرة.

أما المنسحبون فهم كثرُ، ونسرد لكم أيها السادة بعضًا منهم، كالشجاع الفطن الهمام والذى رفض فسادًا ووقف صلبًا كالأسد أمام أباطرة الفساد فأذلوه وعيّبوه واتهموه ونالوا من سمعته فلجأ مضطرًا إلى الانسحاب مؤثرًا السلامة فاقدًا الأمل وزاهدًا فى الحياة، متبنيًا مبدأ اللامبالاة مع عدم الرغبة فى الإصلاح.

وأيضاً المظلوم اليائس والذى سُلب حقه وانتُزع منه ولم يفشل فقط فى استرداده بل دخل مرغمًا فى دوامة صراعات شديدة سَلبت منه الراحة والأمان، وزادت حمولته أضعافًا فقرر أن ينسحب بعيدًا عن الناس فهو بجوارهم وليس معهم، يتواجد معهم بجسده ولكن روحه وعقله فى مكان آخر.

وأيضاً المُحب العاشق والذى لم تكتب له الأقدار أن يرتشف من رحيق العسل أو أن يذوق حلاوة القرب من محبوبه، فبات نهاره كليله وليله كنهاره، فالألم يعتصر صمامات قلبه، ومرارة الشوق تحرق فى أوصاله، أما الوصال الممنوع فأصبح كصخرة كبيرة عنيدة يصطدم بها دومًا، فذاك أيضاً آثر الانسحاب والانزواء بعيدًا لعله يجد فى الخيال أملًا فى اللقاء أو فى الأحلام رجاءً فى الوصال.

والانسحاب حيلة دفاعية يلجأ لها الفرد المتأزم لا شعوريًّا، فتعريفه وفقًا لمدرسة التحليل النفسى هو الابتعاد عن الموقف المتأزم الذى يحتمل أن يثير فى نفس الفرد القلق المؤدى إلى الألم. وخاصة الابتعاد عن الناس، ولكن إن اضطرته الظروف للبقاء فى هذا الموقف المتأزم فيتقوقع ويعيش بجوار الناس لا معهم.

ومن أهم وظائف الانسحاب هو تجاهل الصراع، والهروب اللاشعورى الذى يهدف لاحترام الذات وعدم الاعتراف بالفشل الذى يعتبره الفرد مخجلا.

ومن أهم صور الانسحاب: الانسحاب النفسي: كانخفاض مستوى الطموح واعتراف الفرد باستحالة الوصول لحل أزمته والمريض الذى أيقن من دُنو أجله، أما الانسحاب المادى وهو الانطواء كعدم الرغبة فى المشاركة الاجتماعية، والانصراف إلى عالم خاص ليس فيه احتكاك مع العالم الخارجى إلا نادرًا، وهذه الصفة التى يتصف بها كثير من الانطوائيين. وقد يهرب المتأزم من موقفه ويلتمس راحته فى الخيال أو الإسراف فى العمل، لينشغل به عن مواجهة مشكلاته، وهذا ما يعرف بالاحتماء بالعمل.

هذا الشخص المنعزل بعيدًا عن الناس يكون علاجه أصعب من علاج الشخص العدوانى؛ لأنه يصعب إعادة تكيفه للمجتمع، إلا بإرادة صلبة قوية.

وفى النهاية كان الله فى عون كل من مر بأزمات قلبت مجرى حياته، ولكن لا تنس تلك الحقيقة وهى أنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فأنت تستطيع، وأنت لها.

[email protected]