التحريف بمعناه العام هو التغيير، ويشمل التغيير اللفظى والتغيير المعنوى، وتحريف الكلام أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين، كذلك التصحيف هو كتابة كلمة أو قراءتها على غير ما هى عليه، لاستشكال سماع أحد حروفها أو رسمه بحيث يشابه حرفًا آخر.
ومن الواضح أنه يجب علينا امتلاك قدرات خارقة كالتخاطر عن بعد، لإثبات ما هو معلن من تصريحات لا تقبل الغموض أو التأويل، ومن الواجب أيضًا على كل مسئول أن يمتلك آليات عمل استثنائية وضوابط محددة فى اللفظ بحيث لا يحمل أكثر من معنى، ولا يدع فرصة لأحد بالتكهن بديلًا عن التزام النص، حتى لا تقع تصريحاته فريسة للتحريف ويحدث معها حالة من الارتباك.
وكانت وزارة التموين قد أصدرت مؤخرًا بيانا، بشأن اجتزاء تصريح الدكتور على مصليحى والتى أسيء فهمها والخاصة بتطبيق آلية جديدة لدمغ المصوغات والمشغولات الذهبية التى يتم تداولها باستخدام أشعة الليزر، والتى تسببت فى حالة من القلق والجدل.
ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يعلن فيها مسئول بدرجة وزير عن تحريف أو اجتزاء تصريحاته سواء عن عمد أو غير قصد، فقد نددت وزارة الخارجية المصرية فى عام ٢٠١٦ بتعمد تحريف تصريحات الوزير سامح شكرى حول الانتهاكات الإسرائيلية بحق أطفال فلسطين عبر اتباع أساليب الاثارة والمزايدة على مواقف مصر، كذلك أعلنت وزيرة الهجرة أيضًا أنها فوجئت بتحريف لبعض مما قالته خلال لقائها بأعضاء من الجالية المصرية فى كندا، والخاصة بتهديد المصريين فى الخارج.
تناول كتاب « هز القحوف فى شرح قصيد أبى شادوف « المطبوع بالمطابع الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة ١٨٩٠ ليوسف بن محمد الشربينى، أو غيرها من النسخ التى تم تحقيقها، الحياة الاجتماعية للريف المصرى فى هذه الفترة، وبعيدًا عن مضمون الكتاب ونقده اللاذع أو أسباب ذلك لأنه خارج عن سياق الموضوع الذى نتناوله، ما يهمنى عدد من الحكايات ذات سياق واحد تناولها الكتاب، تخص موضوع المقال وهو ظاهرة التحريف وما ينتج عنها :
الأولى :.. أنه صلى رجل فلما قرأ الفاتحة وبلغ قوله سبحانه وتعالى « اهدنا الصراط المستقيم «، أبدل النون ميمًا وقال « اهدموا الصراط المستقيم «، فقال له رجل عارف : « بطّل وخلى الصراط المستقيم بلا هدم، قاتل الله الأبعاد «.. هذا نموذج للتحريف الذى يجب الرد عليه فورًا، لأنه يغير المعنى تمامًا، ويقلب الحقائق والمعانى رأسًا على عقب، ونعلم أن هناك من يعمل بقصد على تحريف النص كسياسة للهدم الممنهج.
الثانية :.. وصلى فقيه بجماعة فلما قرأ الفاتحة وأتى إلى آخرها قال : « ولا الضالون « فقال رجل من خلفه « آمون « فالتفت إليه الإمام وقال : لحنت!!، فقال له : بل أنت كفرت «.. وهذا نموذج للتحريف المتبادل واشتراك كل من طرفى عملية الاتصال فى التحريف والرد والجدل، والعلاقة الطبيعية بين النتيجة والسبب أو الفعل ورد الفعل.. وهذا النوع من التحريف يمكن اجتنابه بضبط النص ودقته من منبعه.
الثالثة :.. دخل أحد العلماء قرية من القرى وكان يوم جمعة، فلما قربت الصلاة توجه ليصلى فرأى أهل القرية جميعًا داخلين المسجد، وكل واحد منهم معه قفة خوص وفيها مغرفة خشب وسكين من حديد وفأر ميت معلق فى عنقه، فتعجب من فعلهم، وقال لابد أن أسأل فقيه البلد عن الأمر، فبينما هو متعجب من فعلهم، إذا بالفقيه داخل إلى المسجد للخطابة، وهو أيضًا مثلهم حامل قفة فيها مغرفة خشب وسكين، ومعلق فى رقبته فأر ميت، ورآهم كلهم يصلون بهذه الهيئة، فتقدم إلى الخطيب، وسأله عن الأمر، ومن أمر أهل القرية بهذه الفعلة، فقال أنا أمرتهم بذلك، فقال له هذا الأمر باطل، والصلاة باطلة، وما دليلك على ذلك، فقال حديث قرأته فى كتاب عندى واسمه كتاب " التيه " ولفظه.. وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال : لا تصح جمعة أحدكم إلا بقفة ومغرفة وخشبة وسكينة وفأر.. فطلب منه الكتاب فرآه كتاب التنبيه، تصحفت وتحرفت عليه بالـ" التيه " وأن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال لا تصح جمعة أحدكم إلا بعفة فتصحفت إلى " قفة " وسكينة تصحفت "بسكينة" وخشية تصحفت بخشبة ومعرفة تصحفت بمغرفة ووقار تصحفت بفأر.. هذا النوع من التحريف والتصحيف عن جهل الذى يؤدى إلى إحداث فعل مشين وكارثى نتيجة لجهل القائل ومن يتبعه.
ولم تقتصر شكوى التحريف على عدد من السادة الوزراء، بل أصبحت مبررًا سهلًا للبعض، فقد أعلن اتحاد الكرة المصرية أن تصريحات البرتغالى كيروش، بشأن عدم المنافسة على لقب كأس الأمم الأفريقية تم تحريفها، ونقلها بشكل خاطئ لوسائل الإعلام، وتم التعاقد مع مترجم جديد لكيروش.. بدلًا من انتقاد تصريحاته أو محاسبة أداء الرجل مع المنتخب!!
وفى الفن حدث ولا حرج.. فالأمر شائع كالهواء.. آخر بطلات مسلسل التحريف كانت الفنانة رانيا يوسف والتى أعربت عن حزنها الشديد، من قيام البعض، بتحريف تصريحاتها، وأنها لا تبحث عن رجل أساسًا سواء احترم عودتها للبيت الخامسة فجرًا أم لا.
ظاهرة التحريف لم تقتصر على الشأن الداخلى فقط، فمن الواضح أنها أصبحت ظاهرة العصر لكل من يريد التراجع عن تصريحاته، وكأنها الملاذ الآمن للخروج من توابع ما قال وإليك بعض النماذج التى تناولتها نشرات الأخبار :
- الرئيس الفرنسى ماكرون قال بأنه تم تحريف كلامه والخاص بتأييد الرسوم المسيئة للرسول، لامتصاص غضب المسلمين.. الكرملين أعلن أن تصريحات لافروف بشأن الاتحاد الأوروبى تم تحريفها..، سفارة فرنسا بالقاهرة قالت بأن تصريحات «روماتيه» بشأن كورونا «تم تحريف ترجمتها».. وزير التربية والتعليم فى الكيان المحتل، قال بأنه تم تحريف تصريحاته بشأن علاج تحويل المثليين.. وهناك الكثير من الأمثلة والنماذج.
ولا أبالغ إن قلت بأن التحريف أصبح ظاهرة مقلقة تدعو للتأمل والدراسة، للوقوف على أهدافها، وأسباب انتشارها، وكيفية مواجهتها، بعد أن طالت هذه الظاهرة جميع القطاعات والفئات والطبقات، وأصبحت لدى البعض كعصا سحرية، وملجأ لمن يبحث عن عذر أو الهروب بديلًا عن المواجهة والاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه إن وجد.
الكلمة مسئولية كبيرة، وعندما تصدر عن مسئول تكون المسئولية أكبر وأعظم، ويجب أن تكون بدقة لا تحتمل فيها التأويل أو التحريف أو التصحيف.