عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

مكاشفات

 

 

 

 

كنت قد طرحت فى مقالى السابق «وخز الضمير» تساؤلا: وهو كيف لا يؤثر هذا الفيض النورانى المسمى (بوخز الضمير) على كل البشر، سواءً فى تعديل سلوكياتهم أو تصويب أخطائهم؟ فمثلا لم لا نجد كل الناس بقلوب رحيمة وعقول منصفة؟ كيف نجد من نشأوا على مناهج أخلاقية معتبرة يظلمون ويأكلون الحقوق فينحرفون انحرافا كليا عما آمنوا به بلا وازع أو ضمير؟ لم لا نجد أيضا محاولات الندم والتوبة عند أحدهم بعدما أوقع الأذى بالآخرين؟ ما الذى يمنع سريان تأثير وخز الضمير على كل البشر؟ وكيف نجح هؤلاء «الأشرار» فى إسكات أصوات ضمائرهم الحية؟ وكيف ارتاحوا من التأنيب النفسى الشديد بعد ارتكابهم الخطايا؟ والإجابة أطرحها فى كلمة واحدة وهى «التبرير».

والتبرير وفقا للدكتور «أحمد عزت راجح» أستاذ ورئيس قسم علم النفس الأسبق بجامعة الإسكندرية فى كتابه «أصول علم النفس» هو التمويه على الباطل بما يشبه الحق، أن ينتحل المرء سببا معقولا لما يصدر عنه من سلوك معيب، هو تقديم أعذار تبدو مقنعة ومقبولة للبعض لكنها ليست الأسباب الحقيقية لما يفعل، هو محاولة لخداع الضمير، لأن المبرر لنفسه يؤمن دوما أن ما يقوله هو الحق فجوهر التبرير خداع الذات على عكس الكذب لأن الكاذب يدرك السبب الحقيقى لسلوكه لكنه يتعمد التحريف للكذب على الآخرين، وهنا تكمن خطورة التبرير.

فتجد من يبرر أخطاءه تبريرا ليس منطقيا فحسب بل يصبغه بالصبغة الدينية أيضا ليخدع من حوله. والأمثلة على ذلك كثيرة، من يسرق أو يستحل الرشوة بحجة أن راتبه لا يكفى إطعام بنيه، ومن يأكل حقوق غيره بالباطل لإيمانه بأفضليته واستحقاقه، ومن يتحرش بالنساء لكونهن مثيرات، من يؤذى ويهدر حق ويشهد زورًا فى حق الآخرين امتثالا لأوامر رئيسه فى العمل ضمانا لتحقيق مصالحه وإرضاءً للسلطة واستجداءً بها.

ومن أشهر الأمثلة على ذلك التجربة الشهيرة التى قام بها ستانلى ميلجرام فى عام 1961 أستاذ علم النفس فى جامعة هارفارد وكان عنوانها « كيف تتوافق مع ضمير غير مستريح» والتى نشرها فى كتابه الشهير «Obedience to Authority» تقوم التجربة على وجود اثنين من المتطوعين أحدهما يقوم بدور المعلم والآخر بدور المتعلم ومشرف يراقب المعلم من بعيد، وأما المتعلم فيتم تقييده فى المقعد ويُقال له إن عليه تذكر قوائم كلمات وإن لم يستطع تذكرها يُطلب من المعلم أن يعطيه صدمة كهربائية صغيرة وعلى كل إجابة خاطئة يزداد الفولت الكهربائى وفى الوقت نفسه يتم إجبار المعلم على مشاهدة المتعلم وهو يتدرج فى مستويات الألم بداية من الألم البسيط حتى الصراخ من قوة الألم.

لكن ما لم يكن المعلم على دراية به هو أنه لا يوجد أى تيار كهربائى فى صندوق التحكم من الأساس وما المتعلم إلا ممثلا يتظاهر فقط بالألم جراء الصدمات الكهربائية، فالهدف لم يكن أبدا رد فعل الضحية ولكن ارتكز على رد فعل المعلم، إذ كيف تكيف مع التسبب فى إيلام كبير لإنسان ضعيف لا حيلة له؟

ولكن ماذا حدث؟ فتوقع ميلجرام كما توقعت أنا وغيرى الكثير أن يتم إيقاف التجربة فورا مع أول بادرة للشعور الحقيقى بالألم من جانب المتعلم فهى مجرد تجربة من البداية، لكن حدث العكس تماما، استمر معظم المعلمين فى اتباع أوامر مشرفيهم وإعطاء صدمات كهربائية متزايدة للمتعلمين حتى نفاد آخرها فى المولد الكهربائى وكان هذا رغم سماعهم صيحات المتعلمين وتوسلاتهم بإخراجهم من التجربة، ولم ينكر ميلجرام أن بعض المعلمين قد تحفظوا منذ سماع صيحات الألم الأولى ولكن أبدا لم يطلبوا إيقاف التجربة وإنهاء معاناة الضحايا.

حقا النتائج أدهشتنى، فلماذا لم يشعر المعلمون بالذنب ويتركوا التجربة فورا وقت سماعهم صرخات الألم؟ ولعل النتيجة الأكثر دهشة هى ملاحظة ميلجرام أن الحس الأخلاقى لدى الأشخاص موضوع التجربة لم يختفِ بل أُعيد توجيهه بمبررات كثيرة وذلك لإراحة ضمائرهم المتعبة واستكمال المهمة لآخرها فى إحداث الألم فى الآخرين. ومع علمهم اليقينى بخطأ ما يقومون به بدأ المعلمون بتطوير آليات تأقلمهم مع وحشيتهم وتقديم تبريرات تتوافق مع ضمائرهم غير المستريحة!

[email protected]