رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

لحظة فلسفة

نقلتان محوريتان غيرتا مسار التاريخ، أو هما قفزتان حاسمتان التى صنعتا طريقة عيشنا وشكلتا مجتمعاتنا، بل وصاغتا وعينا كبشر إلى يومنا هذا.

النقلة المحورية الأولى حدثت حول العام 500 قبل الميلاد. حول هذا التاريخ عاش عددٌ من الفلاسفة والزعماء الروحيين فى أماكن مختلفة من العالم: بوذا فى الهند، وكونفوشيوس فى الصين، والفلاسفة فى اليونان، وأنبياء اليهود فى فلسطين. وبرغم تباينات كبيرة بين الأفكار التى بشر بها هؤلاء، والمبادئ التى دعوا الناس إلى اعتناقها، إلا أن فكرة كبرى تبدو كخط متصل ومشترك بينهم جميعاً: تحقيق السعادة بالرضا بالقليل والإيثار.

الإيثار هو رؤية للحياة تقوم على أن سعادة المرء ليست فيما يراكمه من الأشياء المادية ومظاهر الثروة. السعادة الحقيقية، كما بشر هؤلاء بصور مختلفة، تكمن فى المبادئ الأخلاقية التى يعتقنها الإنسان. على رأس هذه المبادئ التعاون مع الآخرين، ومعاملتهم بما يحب المرء أن يعاملوه به، بل والتضحية من أجلهم إن استدعى الأمر. هذا «الميثاق الأخلاقي» يقوم على قاعدة تتكرر بصيغٍ مختلفة فى عقائد ونظم فلسفية متباينة: لا تعامل الآخرين بما لا تحب أن يعاملك الآخرون به. أو «حب لأخيك ما تحب لنفسك».

هذه الفكرة «الإيثارية» تبدو مناقضة للطبيعة البشرية المُصممة على أساس التنافس والصراع والأنانية. كان طبيعياً، والحال هذه، ألا يتقبل البشرُ هذه الفكرة بسهولة. لذلك فقد ظلت المبادئ الأخلاقية التى بشر بها الأنبياء والفلاسفة تتفاعل وتتبلور لما يقرب من 1500 عاماً، إلى أن وجدت هذه المبادئ تجسيداً تفصيلياً لها فى الأديان العالمية التوحيدية الكبرى، وبخاصة الإسلام والمسيحية. أهم ما يميز هذه الأديان أنها حولت الأفكار الإيثارية والأخلاقية إلى مؤسسات ونظم وقواعد مستقرة للمعاملات بين الناس والعيش فى المجتمع.

وإذا كانت هذه النقلة فى تطور المسيرة البشرية نقلة روحية وأخلاقية بالأساس، فإن النقلة الثانية كانت مادية. جاءت هذه القفزة مع الثورة الصناعية حول العام 1750 ميلادية. جوهر هذه النقلة كان زيادة الإنتاج بصورة غير مسبوقة فى التاريخ البشري، ومن ثم تحسين مستويات العيش وإطالة الأعمار والارتقاء بالصحة وتحقيق قدر من الازدهار الشامل مقارنة بالعصور السابقة.

الفكرة الكبرى السائدة فى العصر الصناعى هى «الحصول على المزيد» للعدد الأكبر من البشر. النظام الاجتماعى الأهم فى هذا العصر هو الرأسمالية. فى القلب من الرأسمالية وعدٌ بإمكانية تحسين الحياة عبر الاستثمار المستمر فى الابتكارات الجديدة. جوهر الرأسمالية هو المنافسة وليس الإيثار. محركها هو الطموح للأفضل وليس الرضا بالقليل.

يعيش البشر اليوم بعقل تسكنه أفكارٌ وطموحات وتطلعات صاغتها القفزتان الأهم فى تاريخنا: القفزة الروحية الأخلاقية التى بدأت من 2500 سنة، والقفزة المادية الصناعية من 250 سنة. لو فتشت خلف أخطر التحديات التى تواجه البشر فى عصرنا لوجدتها تعكس التناقض بين هاتين الفكرتين الكبيرتين: الإيثار من ناحية، والحصول على المزيد من الأشياء المادية من ناحية أخرى. التدهور البيئى والتغير المناخى واللامساواة بين البشر والآثار الجانبية للتكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.. كلها قضايا تعكس هذا التناقض الخطير فى عصرنا.

ربما نكون على أعتاب قفزة ثالثة!

[email protected]