رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

لحظة فلسفة

هو من الخصائص الأساسية الملازمة للحالة البشرية. الإنسان مكتوبٌ عليه أن يعيشَ فى حالةٍ خطيرة ومؤلمة من انعدام اليقين. هذه حقيقةٌ نشترك فيها، نحن من نعيش اليوم عصرَ التقدم العلمي، مع أسلافنا القدماء الذين جابوا الأرض صيادين وجامعى ثمار قبل ظهور الحضارة المستقرة. وأخطر «اللايقينيات» وأشدها أثراً فى وجودنا هو ذاك المتعلق بالمستقبل. نحن لا نعرف ما سيحدث غداً، بل بعد لحظة واحدة. قد نُغلب توقعاتٍ بعينها، ولكن لا يقين كاملاً لدينا. المستقبل بالنسبة لنا -كما الحال بالنسبة لسلفنا القديم- هو اللايقين الأكبر.

لنتأمل قليلاً ما فعلته هذه الحالة من اللايقين فى الإنسان، من الزمان البعيد إلى يومنا هذا: لقد انخرط البشر فى صراع مرير ومضن مع هذه الحالة المخيفة، من أجل التخفيف من وطأتها وتقليص مساحتها فى حياتهم. السدود التى أقامها أسلافنا، المزارعون الأوائل على ضفاف الأنهار، فى دجلة والفرات والنيل والنهر الأصفر ونهر السند، لم تكن سوى محاولات مُثابرة للحفاظ على درجة معقولة من اليقين فى مواجهة حدثين طالما روعا المجتمعات المستقرة: الجفاف والفيضان. إلى اليوم، ومع ما نملك من إمكانات تكنولوجية، ما زال المناخ وما يأتى به من أشد اللايقينيات تأثيراً فى حياتنا!

مواجهة تقلبات الطبيعة اقتضت، فى واقع الأمر، تأسيس الاختراع الأهم فى تاريخنا البشري: المجتمع!

نعم.. نحن نعيش معاً فى مجتمعات لأننا غير قادرين على مواجهة انعدام اليقين بمفردنا. الجماعات تستطيع تقليص مساحات الخطر والخوف مما هو آت عبر التكاتف والتضامن، والتفكير المشترك فى الاستعداد لما قد تحمله رياح الغد.

اللايقين هو أيضاً السبب الخفى فى تأسيس الدولة، وهى نوع من النظام المتفق عليه لحياة الجماعة فى مكان معين. لقد وجد البشرُ أن الحياة من دون هذا النظام غير قابلة للتنبؤ. عندما تعيش فى مجتمع، بلا دولة، فإنك تواجه قدراً مرعباً من «اللايقينيات» ليس فقط إزاء الطبيعة، ولكن أيضاً فى التعامل مع نوايا البشر الآخرين، وما يمكن أن يفعلوه بك وبممتلكاتك أو بأسرتك.

والحقيقة أن كل جهد بشرى فى صناعة الحضارة يُمكن النظر إليه بوصفه محاولة لتقليص مساحة اللايقين فى الحياة..

النظم العقائدية القديمة، التى عرفتها كل الحضارات بلا استثناء، لم تكن سوى سعى إنسانى لتخفيف حالة القلق والحزن والتوتر الدائم المصاحب للعيش فى ظلال اللايقين. الروح البشرية تتوق لليقين، وتئن تحت وطأة الشعور بغيابه. الإيمان وسيلة أكيدة لطمأنة القلوب المُتعبة.

الفلسفة، بدورها، ليست سوى جهد عقلى لإيجاد معنى ما وراء ظواهر وأشياء تبدو فوضوية وبلا معنى. هى محاولة للوصول إلى «يقين ما» عبر العقل.

العلم أيضاً هو طريقة للتفكير هدفها تقليص مساحة اللايقين فى حياتنا عبر فهم قوانين الطبيعة، وبالتالى التنبؤ -بقدرٍ ما- بسلوكها.

من المُدهش حقاً أن نتأمل ما صنعه انعدام اليقين من منجزات إنسانية، برغم كل ما تسبب فيه، ولا زال، من معاناة وآلام للبشر!

 

[email protected]