على فكرة
كان من عادة «صلاح عيسى «حين الرجوع إلى المنزل من العمل، أن يحمل معه رزمة من الصحف والمجلات الصادرة فى نفس اليوم . ذات يوم أبدى جارنا دهشته من تلك الحمولة ، وقال له ونحن نصعد معا فى الأسانسير: ياخبر أبيض بتقرا كل ده ، فرد صلاح ضاحكا: حنعمل إيه بقى ،ماهى دى عدة الشغل .
كانت عودته للمنزل صاخبة تملأ أرجاء البيت بالحيوية والحركة ، و تحمل معها وعدا يوميا بالفضفضة ، وتبادل الأخبار ، والشكوى من متاعب العمل وما يعترض يومنا من بعض سخافات الحياة وخيباتها ، وما تجود به علينا من أفراح عابرة . يلقى بحمولته على أول مكان يقابله فى البيت 0ثم يبدأ فى ملاحقتى، من المطبخ لقاعة الطعام، وقت الإعداد لتناول الغداء ، وهو يواصل الحكى .
فى ذلك اليوم كانت عودته للمنزل مختلفة،.فتح باب الشقة بهدوء،ثم دخل مباشرة إلى غرفة مكتبه ،القى عليه أوراقه ،ثم استلقى على الكنبة المواجهة للمكتب ، وخيمت على وجهه علامات التوتر والقلق وهو ما أثار تساؤلى .وردا عليه أجاب بلهجة تجمع بين الابتسام والحزن :
- هاجر تركت المكان وحتشتغل فى الأهرام .
-ولماذا الحزن ؟ أولست أنت من نصحها بذلك ؟
-لست حزينا ،بالعكس أنا فرحان عشانها جدا ، فهى تستحق ، لكن ذلك لا ينفى أن «القاهرة «قد خسرتها .
كان الحديث هو عن «هاجر صلاح» المحررة فى صحيفة الأهرام ،و المحققة الصحفية من طراز رفيع . كانت هاجر تعمل معه فى فريق التحرير فى صحيفة «القاهرة «عندما كان يرأس تحريرها. وكان من عادة صلاح أن يزهو بمهارة هذا الفريق من الشباب الذى يعاونه ، ويحرص فى كل مناسبة أن يتحدث عن كفاءتهم ومواهبهم الصحفية والمهنية ، معززا بذلك فرحه الدائم بالمواهب ، ودعمه لهم الذى لاسقف لحدوده . وكان من بين هؤلاء «محمد الشماع «و» هاجر صلاح» اللذان صدر لهما مؤخرا عن دار شمس للنشر والإعلام كتاب مشترك بعنوان «حكايات من دفتر صلاح عيسى « يسجلان فيه تجربتهما الشخصية فى العمل معه ،وقتما كان رئيسا لتحرير جريدة القاهرة .
لم يتوقف الكاتبان عند تأمل ورصد الملاحظات الشخصية الثاقبة عن رئيس يعملان معه، عبر تحقيق استقصائى رفيع المستوى المهنى . لم يستسلما كذلك للطريق السهل ، بل ذهبا لتوثيق ما توصلا إليه،بالتنقيب عن أبعاد شخصيته من رفاقه وزملائه ومرؤوسيه ، وتسليط الضوء على رحلته الشخصية والمهنية الشاقة ،بعيدا عن التصورات الشائعة والأحكام المسبقة ،حتى يمكن القول أن من يقرأ الكتاب لن يعود كما كان عليه قبل قراءته .
أما دوره العام السياسى والنقابى والمهنى فقد التقط الدكتور «عبد المنعم سعيد « عمق البصمة النوعية لهذا الدور ،فى مقدمته الرائعة والمنصفة للكتاب ،عندما وصف شخصية «عيسى « بالمركبة ،التى تجمع بين الحزن والسخرية والرأى الرصين العنيد ، وتتحلى بدرجة عالية من الاحتراف المهنى ، فضلا عن قدرات تحليلية رفيعة ، لعالم اجتماع سياسى رصين . تكشف المقدمة كذلك عن جانب شخصى يستحق الاحترام ،يتمثل فى دعم» سعيد «للأجيال الشابة الجديدة من الكتاب والصحفيين ، باستجابته الكريمة لكتابتها.
يتتبع «الشماع «وهاجر» بعض ومضات من سيرة «صلاح عيسى «بكتابة تتسم بلغة بسيطة سيالة تقترب من الأسلوب الأدبى الإبداعى ، وتنطوى على فطنة تبدو منطقية لاثنين من الجيل الشاب من الصحفيين ،المهموم بالشأن العام ،ويمتلك من الوعى ما يدفع للنظر إلى مهنة الصحافة ، لا باعتبارها وظيفة للترقى الاجتماعى ولكسب الرزق ،بل دور ورسالة لقول الحقيقة، والدفاع عن مصالح عامة .
والكتاب قبل هذا وبعده ،فيض من خلق رفيع ،لانه يحفل بقيمة المحبة والوفاء والعرفان بالجميل ،لمن علمنا حرفا ، كما عبر عن ذلك الإهداء الذى ساقه المؤلفان :إلى من علمنا الأحرف الأولى ..صلاح عيسى.