عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

تنطوى معضلة التنوير فى ثقافتنا على مفارقة مؤلمة. ففى الوقت الذى تنتشر فيه على مواقع التواصل الاجتماعى تجمعات ترفع لافتة التنوير وتدعو لإعمال العقل فى الواقع وفى التراث الدينى، وفى الوقت الذى يخصص فيه معظم مفكرينا حاليًا كتاباتهم للدفاع عن التنوير نجد أن التنوير فى أوروبا أصبح شيئًا ينتمى إلى الماضى، ففى الستينيات من القرن الماضى كتب «ماكس هوركهيمر» بالاشتراك مع «تيودور أدورنو» كتابًا بعنوان جدل التنوير، وخلاصة ما يقدمانه فى هذا الكتاب هو أن مشروع التنوير فى أوروبا قد أفلس، وأن حلم التحرر تحول إلى كابوس حقيقى مع ظهور النازية وقيام الحربين العالميتين الأولى والثانية. وأن العقل الذى كنا ننشد من خلاله الخلاص تحول إلى عقل قمعى ومستبد يبرر الطغيان والاستعمار واستغلال الشعوب الفقيرة، والبورجوازية التى على أكتافها قام عصر التنوير تحولت إلى رأسمالية بغيضة لا هدف لها سوى امتصاص دماء الفقراء.

وهكذا ففى الوقت الذى تغرب فيه شمس الاستنارة فى الغرب تصبح الحاجة إلى التنوير حاجة ملحة وضرورية لدينا، وفى الوقت الذى سقطت فيه السرديات الكبرى كالاشتراكية والقومية والليبرالية ويبحث فيه الآخر عن سرديات جديدة ومغايرة، نفتش نحن لأنفسنا عن مكان وعن دور نمارسه على الخريطة الكونية للعولمة!

وبينما يتحدثون فى الغرب عن نهاية الأيديولوجيا وما بعد الحداثة، وما بعد العلمانية، وما بعد الليبرالية نتطلع نحن فى الألفية الثالثة إلى الحداثة ونشر الليبرالية، ونناضل من أجل تأسيس الدولة المدنية، ولا نكف عن المطالبة بتطبيق مبادئ عصر التنوير المتمثلة فى إعمال العقل وتقديس كل ما هو إنسانى والتحرر من أصنام الماضى ومن سلطة الاستبداد الدينى والسياسى.

تبين لنا مما سبق أن التنوير يرتبط ارتباطًا عضويًا بالإبداع ولا يمكن أن يوجد تنوير بغير إبداع. ومن المهم جدًا أن نقف عند أسباب غياب كل من التنوير والإبداع فى ثقافتنا الراهنة، لماذا غاب الإبداع العلمى والفلسفى والفنى والثقافى والتكنولوجى وتحولنا إلى مجرد كائنات لا هدف لها فى الحياة سوى استهلاك منتجات الآخر الغربي؟ لماذا تدهورت قيمة العقل فى حياتنا وانسحب العقل النظرى ولم نعد نعرف غير العقل العملى أو الأداتى أو الوسيلي؟ ومن ثم فقد أصبحنا نعيش العصر العولمى بكافة مفرداته التقنية ونفكر بمنطق العصور الوسطى.

ربما نعثر على إجابة لهذا السؤال من خلال الكتاب الرائد للشاعر «أدونيس» الذى سماه «الثابت والمتحول»، واختار له عنوانًا فرعيًا: «بحث فى الاتباع والإبداع عند العرب». ولقد كان أدونيس محقًا فى وضع الاتباع مقابلًا للإبداع. فإذا كانت مقومات الإبداع تتطلب الحرية والاستقلال الفردى والذاتى، وتتطلب الأصالة والتفرد، وتقتضى الإيمان المطلق بالمستقبل، وتنشد كل ما هو مُحدث وجديد ومبتكر فإن الاتباع يعنى العكس تمامًا، وهو بحسب معناه اللغوى علاقة بين طرفين يخضع ثانيهما إلى أولهما ويلازمه ملازمة اللاحق بالسابق، والمتأخر بالمتقدم، والأدنى بالأعلى، والتابع بالمتبوع، والخادم بالمخدوم، والظل بالشمس، والفرع بالأصل، والصورة بالأصل... إلخ.

وثقافة الاتباع هى ثقافة تقوم على مبدأ أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، ولذلك فإن ثقافة الاتباع ثقافة ماضوية تقوم على تقديس الأسلاف، وعلى النظر إلى الماضى على أنه العصر الذهبى للتاريخ، وهذه الثقافة تقاوم كل ما هو جديد أو محدث بوصفة بدعة وضلالة. ومن ثم فإن ثقافة الاتباع ثقافة سكونية اجترارية تحاول صياغة المستقبل على غرار الماضي! وتقدم تيارات الإسلام السياسى والتيارات الأصولية الدينية صورة مثالية لهذا النوع من التفكير والثقافة وينسى هؤلاء أن الإسلام لم يكن أبدًا دينًا كهنوتيًا، وأنه لم يرفض أبدًا إعمال العقل فى شئون الحياة اليومية، وأن الرسول الكريم قال: «أنتم أعلم بشئون دنياكم». وأنه لم يُصادر أبدًا على مستقبلنا أو حريتنا، لذلك فإن أى طموح يستهدف بعث التنوير والإبداع فى ثقافتنا الحالية الخاملة لابد من أن يسبقه خطاب دينى جديد قوامه القراءة التاريخية للنص، والتعددية، والتسامح، والتخلى عن وهم امتلاك الحق المطلق، خطاب يتوجه بندائه إلى المستقبل ولا يقف عند حدود الماضى السعيد بوصفه نهاية التاريخ، خطاب يقوم على ثقافة الإبداع والعقل، لا على ثقافة الاتباع والنقل.