رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
عاطف خليل

لحظة فلسفة

لو أنك ذهبت إلى شخصٍ عاش طول حياته فى مجتمعٍ على جزيرة استوائية معزولة، من دون اتصالٍ بالعالم، وقلتَ له إن الناس يُمكن أن تمشى على الماء، ماذا سيقول لك؟ سيقول لك إنك تُخرف بالطبع. ستقول له: ولكن الماء يتجمد، ويتحول إلى جليد يمكنه أن يحمل الناس فوقه. سيرد بأنه لم يرَ فى حياته شيئاً كهذا، ولم يسمع من أى أحدٍ عرفه، ولو من ألف عامٍ مضت، شيئاً كهذا. ولكن لو أخذتَ هذا الشخص، وذهبت به إلى حيث الجليد فى بحر البلطيق، سيغير منظوره السابق كُلياً.

هذه التجربة الذهنية دعت الفيلسوف الإنجليزى «جون لوك» (1632-1702) إلى الخروج بفكرة كبرى صار لها، فيما بعد، تأثير هائل على العقل الغربى. هو قال بأن الإنسان يبدأ حياته «صفحة بيضاء»، وأنه يحصل على المعرفة بطريقٍ واحد فقط هو الخبرة المباشرة مع الواقع عبر الحواس. أى أن كل المعارف والأفكار التى راكمها البشر هى حصيلة الخبرة بالحواس. تبدو هذه الفكرة بدهية ومفروغاً منها، غير أنها تُرتب نتائج خطيرة.

فحوى تصور «لوك» هو أن معرفتنا محدودة، بالضرورة، بخبراتنا فى معاينة ما حولنا فى الطبيعة. نحن نعرف فقط ما نستطيع أن نصل إليه بحواسنا. معرفتنا فى هذه الحالة تقع فى إطار الاحتمالات وليس اليقين المؤكد. لو أنك مثلاً تحضر لقاءً يومياً لمدة أربعين عاماً، يأتى إليه أربعة أشخاص، فإنك تتوقع أن تذهب غداً لتجد الأشخاص الأربعة. ولكن هذا ليس مؤكداً بالضرورة. لا شيء يقول لك إنك ستجد الأربعة غداً. إنه احتمالٌ قوى، ولكن ليس يقيناً. هذا النوع من المعرفة المستمد من الخبرة يختلف عن المعرفة اليقينية المستمدة من المنطق: 3 أكبر من 2. هذه حقيقة يقينية، وليست مجرد احتمال.

النتيجة الأخرى التى يصل إليها «لوك» هى أننا نصل إلى المبادئ الأخلاقية بنفس الطريقة، أى من خبرتنا المباشرة مع العالم. ليست هناك مبادئ نولد بها. الإنسان ميز بين الخير والشر على أساس تجربة الحواس أيضاً. ما يُسبب السعادة والمتعة أطلق عليه خيراً، وما يقود إلى الألم والتعاسة سماه شراً. كان «لوك» يعرف بطبيعة الحال أن هناك أشياء تُسبب متعاً لحظية، مثل أن يحصل الإنسان على ثروة بالسرقة. ولكن سرعان ما سيكتشف البشر أن هذا النوع من المتع يتسبب فى شقاء على المدى الطويل، وبالتالى هو شرٌ. هكذا كون البشرُ مبادئهم الأخلاقية وفقاً لـ «لوك».  وهى عملية أصر على أنها تجرى وفق تخطيط وتصميم إلهى أيضاً.

النتيجة الخطيرة التى تترتب على ذلك هو أن المبادئ نسبية. أخلاق الإنسان وأفكاره عن العالم محكومة بالزمان والمكان والظروف التى يعيش فيها. فكرة تبدو بسيطة للغاية، ولكنها لم تكن كذلك فى زمن «لوك» فى القرن السابع عشر. بل هى ليست واضحة لكثيرٍ من الناس إلى اليوم. خذ عندك –مثلاً- هؤلاء الذين لا يريدون ربط النصوص الدينية، مثل القرآن الكريم، بالظروف التى نزلت فيها، والمجتمع الذى استقبلها لأول مرة. ألا يبدو لك أن هؤلاء يرفضون الفكرة المنطقية البسيطة القائلة بأن معرفة الإنسان وتفكيره وأخلاقه هى بنت خبرته وزمانه ومكانه وظروفه؟

[email protected]