على فكرة
قبل أكثر من عشرين عاما ، قامت الدنيا ولم تقعد، حينما عرضت الحكومة مشروع قانون جديد للأحوال الشخصية ، هو القانون 1 لسنة 2000. وفى الحوار المجتمعى للقانون ، اختلط الحابل بالنابل ، ومن يعرف بمن لا يعرف ، والمختص بغير المختص والعليم بالجاهل . وتكفل إعلام الصراخ و»الشرشحة «بإبقاء الحرائق مشتعلة ،ليكتشف متابعو الحوار ،أن المجتمع أكثر محافظة من حكومته ، وأن الحكومة تتقدم عنه بخطوات لافتة ، فى موقفها من القضايا الاجتماعية .
لم تكن النقاط التى ثار حولها الخلاف الحاد بشأن ذلك القانون، ذى علاقة بالشريعة ، ولكن كانت ناجمة عن فهم انتقائى لأحكامها ، يؤول النصوص لخدمة أهداف أنانية ضيقة ، تخدم إصرار بعض الرجال على فرض سيطرتهم على النساء ، وهو إصرار يتناقض مع العدل ، الذى هو أساس الشريعة وهدفها الأسمى .
احتدمت المعركة لأيام وأسابيع ، مع أن القانون كان إجرائيا بالأساس . فقد اختصر نحو 560مادة تنظم إجراءات التقاضى فى الأحوال الشخصية ،فى 81 مادة فقط .واستحدث محكمة الأسرة ، للنظر فى دعاوى الأحوال الشخصية المتعددة . وأقر الاستعانة بنظام الاخصائى الاجتماعى ،لإعداد تقارير المنازعة بين الزوجين .وألزم ذلك القانون الزوج بإخطار الزوجة بالطلاق ليحول بينه وبين إنكاره . فضلا عن أنه ألغى الأحكام الغيابية فى الطلاق ، وسهل للمرأة تنفيذ حكم النفقة عبر منافذ بنك ناصر . وقيد حق الزوج فى منع زوجته من السفر، ليجعل الأصل هو حرية المرأة فى السفر .واستحدث القانون ،حق القاضى فى منع الزوج من السفر إذا أخل بواجباته العائلية ، وامتنع عن تسديد النفقة .
أحيا ذلك القانون حقا منحته الشريعة للمرأة وهو تطليق نفسها بنظام الخلع ، وهو يتيح لها طلب الطلاق من القاضى ، فى مقابل أن تتنازل عن النفقة ومؤخر الصداق .ونظم القانون إجراءات الطلاق بالإشهار والتوثيق مثله مثل الزواج . واستحدث قبول دعوى التطليق من زواج عرفى ، للحد من ظاهرة انتشاره .
وبعد أن قرأت قراءة أولية لمشروع قانون حكومة الدكتور مصطفى مدبولى الجديد للأحوال الشخصية ، شعرت بأن الخطوات القليلة التى خطاها المجتمع للأمام فى القانون القديم ، تتراجع إلى الخلف فى الجديد ،وأتمنى أن يكون ذلك مجرد انطباع خاطئ.، وأن الأمر قد يحتاج إلى قراءة متمهلة تفحص نصوصه وتقارنها بغيرها .
استوقفنى فى المشروع الجديد ،أنه لايقيد تعدد الزوجات ،ولأن البحث عن حلول لقضايا الأحوال الشخصية خارج نطاق الشريعة ، هو أمر مستحيل،ولذلك فمن المنطقى أن القانون التونسى الذى قيد هذا الحق ، وساوى بين المرأة والرجل فى الإرث والطلاق ، قد استند إلى تفسيرات فقهية تستنطق روح الشريعة ومقاصدها . كما توقفت طويلا أمام المادة التى تنص على أنه لا يصح الزواج بمن لا تدين بدين سماوى ، والمادة الأخرى التى تشترط وليا ذكرا ليعقد للمرأة عقد زواجها ، ومنح الولى الذكر حق فسخ عقد زواجها لما يراه عدم التكافؤ بينهما، وحقه فى منعها من السفر ،دون منع سفر الرجل المخل بواجباته . ومعنى ذلك اسقاط حق المرأة فى اختيار زوجها ، والاقراربعدم أهليتها فى عقد قرانها . وتلك نصوص تتعارض مع نصوص الإعلان العالمى لحقوق الإنسان ،الذى وقعت عليه مصر .ويقضى الإعلان بأن للرجل والمرأة ،متى أدركا سن البلوغ ، حق التزوج ، وتأسيس أسرة ، دون أى قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين .. وهما متساويان فى الحقوق لدى التزوج ، ولدى إنحلال الزواج . ويعقد الزواج برضا الطرفين ..رضاء كاملا لاإكراه فيه !
تصويب النظرة القانونية للعلاقة الزوجية باعتبارها علاقة إنسانية راقية ، تضع الاسس المتكافئة لاستقرارها ،لضمان تنشئة صحية للأبناء ، تصون المجتمع من تشوهات النظرة الصراعية لتلك العلاقية تقتضى سد الفجوة بين أحكام الشريعة ، وبين القانون الوضعى ، وعدم البحث فى النصوص ، سوى عن المصلحة .