عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نحو المستقبل

حينما يهل شهر سبتمبر من كل عام سرعان ما أتذكر أستاذنا وفيلسوفنا الجليل زكى نجيب محمود؛ فقد رحل بجسده عن دنيانا الفانية فى 8 سبتمبر 1993م، وعادة ما تمتد يدى إلى أحد مؤلفاته لأعيد قراءته، وهذا العام أعدت قراءة كتابه «خرافة الميتافيزيقا« أو «موقف من الميتافيزيقا« كما أطلق عليه فى الطبعة الثانية. ومن هذا الكتاب أبدأ حديثى عن واحد من أهم ملامح ريادته وأستاذيته  لى ولكل تلاميذه والمهتمين بقضية النهضة والتحديث فى عالمنا العربى والاسلامىK فقد أصدر أستاذنا هذا الكتاب فى أولى طبعاته عام 1953 م وأحدث صدوره دويا هائلا على الصعيدين الأكاديمى والعام، فقد كشف بجلاء عن الهوية الفلسفية لزكى نجيب محمود، حيث اتضح منه تماما أن فيلسوفنا قد فضل الانتماء إلى تيار الوضعية المنطقية وكان أحد أشهر التيارات الفلسفية  العلمية فى القرن العشرين وهو التيار الذى رفض أعلامه الفلسفة الميتافيزيقية بمعناها التقليدى الباحث فيما وراء الطبيعة واعتبروا أن قضاياها قضايا فارغة من المعنى.

 وبالطبع فما إن صدر الكتاب تحت عنوان خرافة الميتافيزيقا انهالت على صاحبه الانتقادات والاتهامات لدرجة نعته بالكفر والخروج على المله! وقد تحمل فيلسوفنا هذا الهجوم بتعقل وصبر ودعا الجميع إلى أن يقرأوا الكتاب جيدا فرفضه للميتافيزيقا لا يعنى هجومه على الدين والغيبيات كما ظنوا بل هو مجرد رفض للفلسفة بمعناها التقليدى الباحث عن حقيقة وجوهر الوجود مستخدمة مصطلحات وعبارات غامضة لا تشير إلى أى واقع خارجى محسوس ولا تحل أى مشكلة من مشكلاته، فضلا عن أنها تعوق تقدم البشرية ولا تساهم فى حل أى مشكله حقيقية مما يواجه البشر فى الوقت الذى يتقدم فيه العلم بصورتيه الرياضية والطبيعية ويقفز بالبشرية خطوات واسعة فى سلم التقدم والتحديث وحل كل ما يعترضها من مشكلات. وقد قضى فيلسوفنا حوالى ثلاثين عاما يواجه هذا الهجوم ويتحمله ويدافع بدراساته ومؤلفاته ومقالاته عن موقفه، مؤكدا أن هذا  اللون من التفكير العلمى الوضعى الذى يدعو إليه هو طريقنا الذى لا طريق سواه للتقدم والنهوض والمشاركة فى حضارة عصر العلم الذى نعيشه.

ومع ذلك فقد اقتنع فيلسوفنا بأن عنوان الكتاب فى طبعته الأولى كان أشبه بصدمة وصاعقة مفاجئة واجهت القراء ومن ثم غيره بعد ثلاثين عاما  إلى هذا العنوان الهادئ « موقف من الميتافيزيقا» وقدم له بمقدمة جديدة ضافية، شرح فيها بوضوح لا يقبل اللبس أنه ليس ضد الدين ولا غيبياته وانما هو ضد نمط معين من التفكير يعوق البشر عن التقدم والمشاركه فى حضارة العصر العلمية. وقد كان لهذا الموقف دلالة رمزية لنا تشير إلى أن اتباع أسلوب الصدمة واختيار العناوين الصادمة ليس دائما هو الأفضل وأنه ينبغى على المفكر أن يكون أكثر تواضعا وأكثر وعيا بثقافة مواطنيه وأن يأخذهم برفق إلى ما يريد أخذهم إليه.

أما الملمح الثانى من ملامح أستاذيته فهو موسوعيته الفكرية التى كانت تبدو فى إلمامه بكل التراث الفلسفى العالمى لدرجة مذهلة. وأذكر هنا أنه حينما اختلف أساتذتى فى القسم حول موضوع رسالتى للدكتوراه وكان عن «نظرية العلم عند أرسطو» واحتجوا بأنه لا يوجد مثل هذا المصطلح  فى عصرنا كما أن أرسطو ليس لديه نظرية فى العلم! ذهبت  إليه متسائلا  فإذا به يصمت قليلا ثم يقول مستبشرا وسعيدا: ولمَ لا ؟! إنه موضوع مهم وجدير بالدراسة فأرسطو هو أول فلاسفة العلم وهو مؤسس التحليل المنطقى وواضع أسس نظرية العلم بمعناها الحديث لو فهم على الوجه الصحيح.

الملمح الثالث من ملامح أستاذيته الفذة هو تلك المقالات التى كان يكتبها كل ثلاثاء فى صحيفة الاهرام اليومية، حيث كانت مقالته تشغل الصفحة بكاملها وتتناول أحيانا أكثر الموضوعات الفلسفية تخصصا وأكثر أفكارها تعقيدا فتجده يطرحها بأسلوب شديد السلاسة والوضوح يأخذ القارئ إليه أخذا فلا يتوقف إلا عند كلمة النهاية، ما جعل القراء يدركون على مدار السنين أن الفلسفة ليست ذلك العلم المعقد الملغز وأن التفكير الفلسفى الذى يعرضه مفكرنا بهذا الاسلوب العلمى السلس شديد الأهمية ويسهم فى انتقالنا من عصر إلى عصر وبه الحلول للكثير من مشكلاتنا الفكرية الأخلاقية والسياسية والاقتصادية بل والدينية والاجتماعية كذلك. وأذكر أننى سألته يوما عقب إحدى الندوات التى كنا عادة ما نستضيفه فيها بعد أن تقدم به العمر ولم يعد ممكنا أن نستمع إليه إلا فيها : كيف يكتب مقالاته بهذ الاسلوب السلس الذى يعرض لأعقد القضايا الفلسفية بهذه البساطة؟! فكانت اجابته: إنه لا يكتب فى أى موضوع إلا بعد القراءة المتعمقة حوله وفهمه جيدا والالمام بكل جوانبه.

[email protected]