رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
سامي ابو العز

نحو المستقبل

فى الثامن من شهر سبتمبر عام 1993م رحل د. زكى نجيب محمود عن دنيانا الفانية لكن أفكاره التى أمتعنا بها وحاول من خلالها إيقاظنا من السبات العميق الذى لم يخرجنا منه صيحات الطهطاوى ومحاولات التجديد عند كل من جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده وغيرهما من المفكرين.

وقد كانت البيئة التى نشأ وتربى فيها زكى نجيب محمود دافعة له من البداية على الاطلاع على الفكر الغربى فى نصوصه الأصلية فكان على حد تعبيره قارئا نهما لكل ما التقطته عيناه من مؤلفات الفلاسفة وابداعات مشاهير الأدباء لدرجة أصبح معها من الكتاب فى المجلات الثقافية الكبرى وهو لايزال طالبا فى كلية المعلمين العليا.

ومن هنا قامت رؤيته الفلسفية على الايمان بالعلم طريقا وحيدا إلى النهوض والتقدم ولاتزال كلماته المدوية التى تشبه الصيحة الخالدة فى مقدمة كتابه «المنطق الوضعى» ترن فى أذنى وتتأرجح أمام عينى كلما تذكرته: «أنا مؤمن بالعلم، كافر بهذا اللغو الذى لا يجدى على أصحابه ولا على الناس شيئا، وعندى أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية يكثر أو يقل بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه». لقد حدد زكى نجيب محمود فى هذه العبارة الشهيرة كل ما ينبغى الالتفات إليه إذا ما أرادت أى أمة تحقيق التقدم والنهوض؛ إذ ليس أمام الناس إلا العلم لكى يتغلبوا على كل المشكلات والتحديات التى تواجههم فى حياتهم وليس أمامهم إلا مواصلة البحث العلمى لحل أى مشكلات تعوق تقدمهم وسعادتهم فى الحياة.

وكم نبهنا زكى نجيب محمود إلى خطورة المرض الذى تعانيه ثقافتنا العربية والمتمثل فى تغييب العقل وغياب الثقافة العلمية فى الوقت الذى يستغرقنا فيه الغوص فى المشاعر والوجدانيات والتعبير عنها بالعبارات الانشائية الفضفاضة، انظر إلى قوله: «لقد أدركت أن العربى بصفة عامة والمصرى بصفة خاصة أشد ميلا بحكم ثقافته إلى العبارات المثيرة للوجدان منه إلى العبارة المستندة إلى عقل وأدركت فوق هذا وذلك أن فى مقدمة الاصلاح أن نربى الأجيال الجديدة على وقفة يفرق لنفسه فيها بين ما هو عام فيحيله إلى العقل وأدواته وما هو خاص فلا بأس عندئذ فى الركون إلى لغة الشعور». إن فى هذه العبارة الأخيرة على بساطتها روشتة التطوير الحقيقى لنظمنا التربوية، حيث ينبغى أن يتربى الأبناء ليس فقط على حفظ الأشعار وقراءة الروايات وحفظ التاريخ بل الأهم من هذا وذاك أن تتربى عقولهم من البداية على التمييز بين العام والخاص، على التمييز بين ما ينبغى أن نمرره على العقل فيفحصه فحصا نقديا ويحلله تحليلا علميا وبين ما يخصنا كأشخاص من مشاعر وعواطف وانفعالات. إن التفكير العلمى وإعمال العقل هو ما ينبغى أن يكون مشتركا بيننا لنحسن التفكير والعمل لإحراز التقدم فى كل جوانب الحضارة والمدنية، أما عواطفنا ومشاعرنا فهى التى تخصنا وحدنا كأفراد نحب ونكره، نحزن ونفرح. إن الحياة العامة إذًا لا مجال فيها للعواطف والانفعالات والمشاعر بينما حياتنا الخاصة قد تملأها العواطف والمشاعر. ولا ينبغى إذًا خلط العام بالخاص ولا ينبغى إذًا اقحام العواطف فى العمل العام والبحث العلمى اللذين يستهدفان الارتقاء والتقدم بحياة الأمم والشعوب.

لقد وهب زكى نجيب محمود حياته كلها وكل كتاباته عبر رحلته العلمية الطويلة لهذه القضية المحورية: بالعقل والعلم تتقدم الأمم وليس بالعواطف والشعور. وكم فهمه البعض خطأ حينما كتب «خرافة الميتافيزيقا» و«شروق من الغرب»!! ؛ فقد كل هدفه فى الكتاب الأول هو التنبيه على أن الأهم بالنسبة لأمة تريد أن تنهض ليس الانشغال بقضايا الوجود والماوراء وهى جل قضايا الميتافيزيقا ومبحثها الرئيسى، وقد وجد فى الكتاب الثانى أن الغربيين سبقونا إلى ذلك فحققوا تقدمهم وبنوا حضارتهم الحديثة من خلال إعمال العقل والتركيز على العلم التجريبى ومن ثم رأى أن علينا أن نتخذ المسار نفسه لنحقق نهضتنا المنشودة ونخرج من عباءة التخلف والجمود، وقد تجلى التعبير عن هذا التوجه العلمى فى فكره بوضوح فى كتابيه الشهيرين «المنطق الوضعى» و«نحو فلسفة علمية». وقد طور زكى نجيب رؤاه تلك فى كتاباته الأشهر بعد ذلك، خاصة فى كتابيه الرائعين «تجديد الفكر العربى» و«المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى»، الذى كشف فيهما للقاصى والدانى لنقاده قبل عشاق فكره ومناصرى رؤيته العلمية فى التقدم أنه أكثرهم فهما لحقيقة تراثنا الفكرى وأنه برؤيته ودعوته للفلسفة العلمية يمزج بين الأصالة والمعاصرة دون ادعاء ودون تعصب. إننا بحاجة دائما لاعادة قراءة الانتاج الفكرى لزكى نجيب محمود ففيه الزاد الملهم للأمة إذا أرادت بحق التقدم والنهوض، فلا نهوض ولا تقدم بدون اطلاق حرية العقل فى التفكير والابداع وبدون تفكير علمى منظم تتربى عليه الأجيال الجديدة.

 

[email protected]