رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

نحو المستقبل

كثيراً ما تتهم الفلسفة بأنها بعيدة عن حياة الناس اليومية، وكثيراً ما يتهم الفلاسفة بأنهم يبحثون فى قضايا ومشكلات فلسفية مجردة لا تتماس مع حياة الناس وبعيدة عن مشكلاتهم، والحقيقة أن هذا محض افتراء على الفلسفة والفلاسفة لأن الفيلسوف ببساطة هو واحد من البشر وإن تميز بحساسية فكرية عالية تجعله دوماً كثير التأمل مهموماً بقضايا وطنه ومواطنيه، ومن ثم فهو يحاول تنبيههم إلى ما سيواجههم من مشكلات حياتية اجتماعية كانت أو سياسية أو مستقبلية فى معظم الأحيان، وهو حينما يفعل ذلك فإنما يسعى لمد يد العون لهم ليعيشوا حياة أكثر سعادة. ولعل من أهم الفلاسفة الذين شغلتهم قضايا الإنسان وطرق سعادته «سينكا» (4 ق. م – 65 م) الذى يعد واحداً من أشهر فلاسفة اليونان القدامى رغم كونه ينتمى إلى تيار فلسفى ممتد زخر بالأعلام طوال ثلاثة قرون سابقة عليه هو التيار الرواقى؛ ذلك التيار الذى أسسه زينون تحت اسم «أهل الرواق» فى نحو عام 307 ق. م.

 وقد قدم سينكا قولاً وفعلاً نوعاً من الأخلاق العملية التى لا ينفصل فيها القول عن الفعل، مازجاً بين قوة الفكر الأخلاقى النظرى وفق ذلك النموذج الأفلاطونى المثالى وبين قوة الإرادة القادرة على أن تفعل ما تؤمن به أياً كانت النتائج وفق ذلك النموذج السقراطى الفذ الذى ضرب أروع الأمثلة على قوة الاحتمال وتحمل نتائج ما يؤمن به حتى لو كان ذلك هو الموت!!، وفى مؤلفات وحياة سينكا ما يؤكد كل ذلك، فهو فيلسوف الأخلاق التطبيقية بامتياز، حيث كان بحثه عن سعادة الإنسان بحثاً ممعناً فيما هو ممكن باعتبار أن الإنسان نفس وبدن وباعتبار أن توجيه العقل يرتبط بسلوك زاهد فى الكثير من المطالب المادية اللذّية التى لا ضرورة لها فى حياة يريد الإنسان الواعى فيها أن يتوافق مع الطبيعة ويعيش محباً لها ولأخيه الإنسان دون افتعال أو تعالٍ.

ولعل من أهم مؤلفاته التى عبرت عن روح سينكا وتعاليمه هى تلك الرسالة المعنونة عن «الإحسان» التى أحسن د. حمادة على صنعاً حينما نقلها إلى العربية، فقد اختار سينكا فى هذه الرسالة أن يجعل من الحديث عن الإحسان دلالة على روعة الأخلاق التطبيقية، ومعبراً عن قدرة الإنسان الفاضل على العطاء بسخاء دون انتظار النتائج حيث يجد الإنسان السخى المحسن السعادة الحقيقية فى هذه القدرة على العطاء قل ما أعطاه أو كثر، استطاع من أحسن إليه رد هذا الإحسان أو لم يستطع.

لقد تساءل سينكا عن معنى فضيلة الإحسان وكانت إجابته: «إنها فعل يبنى على النية الحسنة وهو يٌدخل السرور ويؤدى إليه، ويقدم طوعاً لفعل ما ينبغى، وليس موضوعه ما فعلته أو ما منحته بل الطريقة التى فعلت بها أو منحت بها أى نية المعطى أو الأداة».

ولما كان يعلم أن من طبيعة البشر الأنانية وإنكار الجميل، فما كان منه إلا أن أكد على أنه «لا ينبغى أن نتباطأ فى عمل الفضل رغم كثرة المتلقين ناكرى الجميل، أولا لأننا مسئولون عن زيادة عددهم، ثانياً أن الأرباب الخالدة ذاتها لا تكف عن عطائها وكرمها اللامنقطع لوجود ملحدين ينكرونهم، والأرباب تفعل وفقاً لطبيعتها فتمنح الإحسان لكل موجود حتى الذين شوهوا إحسانهم، دعونا نحذو مثال الآلهة بقدر ما يسمح لنا عجزنا البشرى، ودعونا نمنح الإحسان بدلاً من إقراضه، والمخادع من يفكر فى الرد وهو يمنح من يستحق».

إلى هذا الحد يدافع سينكا عن ضرورة أن يحسن القادر على الإحسان بدون انتظار لرد؛ فمن وجهة نظره أن عدم الاحسان إلى الآخرين قد يكون هو أصلاً سبب وجود هؤلاء الجاحدين المنكرين للجميل وليس العكس، فضلاً عن أن الإحسان ليس فقط محاولة من المحسن للشعور بالسعادة فى العطاء لأخيه الإنسان بل هو محاولة ليحذو الإنسان حذو الفعل الإلهى، فالآلهة تعطى البشر جميعاً بسخاء سواء للمؤمنين بها أو للمنكرين لوجودها. إن علينا على أية حال أن نتشبه يالآلهة ونعطى للجميع بقدر ما نستطيع دون تعال أو تردد.

 وكم كان سينكا عظيماً حينما قال فى هذه الرسالة القيمة «لا تُلمس الإحسان بيد واحدة، وتُؤًّدى بعقل واحد، وهناك فرق واضح بين الإحسان المادى والإحسان ذاته، وليس الإحسان بالذهب والفضة أو أى شىء ثمين نفكر فيه بل الإحسان فى نية المعطى، ولتكن واثقاً أن الخبرة قد أكدت ما نقوله فما تمنحه لشخص آخر وتعتقد أنه هين هو غالٍ ونفيس».

لقد أكد سينكا هنا أن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى؛ فالمهم هو نية الإحسان الكاشفة بجلاء عن أن الإنسان يحس بأخيه الإنسان سواء كان لديه ما يعطى وأعطى فعلاً على قدر استطاعته أو لم يعط. فطالما أن لديك هذه النية للإحسان فهى قد تتحقق بأى شكل من الأشكال ولو بنظرة تعاطف نحو الآخر.