عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

تناولت في مقالات سابقة بجريدتنا الغراء أشكالاً متباينة من جدلية العلاقة بين الأقباط من المسلمين والمسيحيين، كان آخرها: «بنص الكتاب...طعام أهل الكتاب حِلٌ لنا». ولعل حبي لبيت العائلة، ذاك البيت الذي كان يحوي الجد والجدة والأبناء والأحفاد، الجميع يجتمعون على أكلة وشربة واحدة، ويخلدون إلى النوم والراحة في غرف متجاورة في ذات البيت؛ يتقاسم الجميع كافة شئون العمل وهموم الحياة، ويتدارسون يوميًا تدبير أمورهم وكيفية التغلب على صعابها. وكان كبيرا البيت هما رُمانة الميزان، فلا يُرد لهما قول، أو يُعصى لهما أمر؛ وهناك تشربنا كل معاني القيم والأخلاق.

كان بيتنا يجاور بيت حبيب أفندي إلياس، صديق أبي، الذي كنا نلقاه دومًا مبتسم الثغر، مبتهج الأسارير؛ وكان غالبًا ما يُخرج من جيبه قطعًا من الحلوى ليناولنا إياها. ولم نكن نهتم ونحن صغار سوى بأنه صديق الوالد وجارنا الأثير. وكانت زوجته تُكنى باسم ابنها الكبير سلامة، الذي لم نكن ندري أكان مسيحيًا أم مسلمًا. المهم أننا كنا نفرح بالحلوى ونتقاسم اللعب وبهجة الحياة طوال اليوم مع سلامة وأخواته.

تربينا بهذه الروح النقية الزكية المشتركة، التي لم تفرق يومًا بين أبناء الوطن الواحد، بل وحدت مصائرنا في الهم والحزن مثلما جمعتنا في السعد والفرح. فقبيل حرب 73 كانت لجان الدفاع الشعبي تمر علينا وتؤكد علينا ضرورة طلاء الشبابيك بالزهرة الزرقاء ولصق الزجاج بالشرائط اللاصقة، وكان حبيب أفندي أول من مر على بيتنا ليتأكد بنفسه أننا أتممنا العمل. وكانت أم سلامة تُمرض أمي، كلما أصيبت بوعكة صحية، وكأن الله بعثها أختًا لها لتؤانسها وترعاها في غربتها، حيث كنا نسكن في بقعة من بقاع المحروسة بعيداً عن مسقط رأسنا، حيث كان الوالد يعمل.

وذات يوم، ورد إلينا نبأ استشهاد ضابط جار لنا في حرب 73، وخرجنا جميعًا لنشيع جثمانه الطاهر، وجاء وقت العزاء فإذا بحبيب أفندي جالس بجوار أبي في سرادق العزاء والدمع يتساقط من عينيه حزنًا على جارنا الشهيد، وربما تأثرًا بالقرآن الكريم الذي كان يتلى في السرادق. ولِم لا، وقد قال المولى عز وجل: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ. ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ(82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.(83)

وبعد عقد كامل من المحبة والوفاء بيننا وبين أسرة حبيب أفندي انتقلنا إلى بيت آخر. وظلت أمي تتذكر دومًا أم سلامة وتتزاور معها، وكثيرًا ما كانت تقص علينا حكاياتنا مع حبيب أفندي، فتشعرنا دومًا أن الدنيا ما زالت بخير، وبأن الحب هو ما ألّف بين قلوبنا، دون النظر إلى العرق أو الدين.

تذكرت معلمتي ميس ليندا، في مدرستي الراهبات الفرنسيسكان، التي كثيرًا ما كانت تصطحبني طوعًا إلى منزلنا عقب انتهاء اليوم الدراسي، حتى صارت هي وأمي أصدقاء، وأصبحتُ لصيقًا بها طوال المرحلة الابتدائية، فرأيت فيها أمًا تحنو على ابنها، لم تقل لي يومًا انتظر أباك حتى يأتي ليصطحبك؛ بل تطوعت لرعايتي بدافع إنساني محض، فكنا نجلها ونقدرها ونحمل لها الكثير من مشاعر الحب، الذي بادرت هي بزراعته في قلوبنا تجاهها، عملاً بما ورد في الكتاب المقدس: أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ...وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّة.(يوحنا4: 7-8)

دعوا الحب يملأ صدورنا، ولنوقظ التقوى في قلوبنا، لتصبح مصرنا رمزًا للمحبة والسلام.

 

< كاتب="" وأستاذ="">