عاجل
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين
رئيس حزب الوفد
د.عبد السند يمامة
رئيس مجلس الإدارة
د.أيمن محسب
رئيس التحرير
د. وجدى زين الدين

 

تلك اللحظة العظيمة التى جلس فيها «آندى دفرين» وقد وضع أسطوانة داخل البيك أب، وترك الموسيقى تنسل وتمرح وتتصاعد إلى جدران السجن وآذان المساجين فى فيلم «وداعاً شوشينك»، حيث توقف بهم الزمن، وجعلهم بشراً آخرين يحلقون خلف الجدران، يعبرونها كأطياف، يتجاوزونها بقلوبهم، بعد أن أصبحت تلك الجدران الجافة القاسية محبوسة مثلهم.

ليبرهن على أن الموسيقى لا يستطيع أحد أن يلمسها أو يمسك بها، فهى تتقافز هنا داخل العقل، وتعيش وتمرح وتترسب في وجدان القلب، ترتد بك فى أعماق التاريخ، تشاهد من خلال نغماتها ما لم تره، تسبح بك فى أمواج عاتية من الخيال والعبث والمجد العظيم، تسحبك وتسحقك – أيضاً – لتدفنك فى أعماق البراكين أو القبور، تزلزلك وتنفضك وتجعلك شخصاً آخر غير الذى كنته.

الموسيقى لا يستطيع أحد أن يحبسها عنك، لا قياصرة العالم ولا أعتى الديكتاتورين، يستطيعون أن يوقفوها، فالموسيقى دائماً تتدفق وتمرح وتتوالد.

هذه اللحظة التى تستطيع فيها أن توقف الزمن، أن تثبته لحظات، أن تعرقله، حتى لو كانت عرقلة وهمية، هذه اللحظة هى التى تجعل لحياتنا معنى، ولكتاباتنا المجد والخلود والتأثير والتكاثر والنمو.

قليلة – هى - تلك اللحظات التى نستطيع نوقف فيها الزمن، إنها اللحظات التى تحسب وتكون من تاريخنا الفعلى، قدرتنا على هزيمة الزمن هزيمة ساحقة، أن نستطيع أن نوقف تلك العقارب المتقافزة على قارعة الكون، والتى لا تتوقف ولا تمل من العمل.

من منا يستطيع أن يوقف الزمن؟.. ومن منا يستطيع أن يعرقله ويضحك عليه؟

نادرون من يستطيع أن يفعلوا هذا!.. الشىء الوحيد الذى يستطيع هذا بعد الموسيقى، هى: الكتابة، نعم الكتابة التى تحلق بك وتخرجك من ملابسك وتلقى بك فى أتون النار، الكتابة التى تجعل الحواجز والأسوار تتلاشى، وتجعلك عارياً ونقياً، وعذباً، وهادراً.

إننى أتذكرها هنا، مثلما فعل «آندى دوفرين»، حيث توقف الزمن بى فى محطات كثيرة، اللحظة التى أشعلت فيها النيران فى بيت الجيران، بسبب عقب سيجارة، وظل قلبى يخفق مرعوباً أن يقبضوا علىّ، وهى اللحظة التى أخرجنا فيها أخى الأكبر من تحت عجلات قطار الصعيد، وهى اللحظات التى توقف فيها الزمن عندما أخبرتنى الممرضة – البغيضة – برحيل والدى، وهى اللحظة التى تحركت فيها جموع هذا الشعب لتجتمع فى ميدان التحرير دون تعارف، وهى اللحظة التى لامست بأناملى ابنتى وهى تخرج من رحم أمها، وهى اللحظة التى علمت فيها بنجاحى فى الثانوية العامة بعد قرون من الرسوب، وهى اللحظة التى ألقيت فيها أول خطاب لبنت الجيران فى الشرفة وظل قلبي يهدر وأنا أخفى نفسى خلف الجدران، وهى اللحظة التى سرقت فيها بعض النقود من حافظة أبى، وهى اللحظة التى وقفت فيها أمام القاضى للحكم على بالحبس بعد أن حطمت أحد المحلات، وهى اللحظة التى وقع فيها «وكيل النيابة» الأوراق كى يحبسنى بعد أن أصبت طالباً بعاهة مستديمة حاول معاكسة حبيبتى، وهى اللحظة التى انتشلنى فيها الأصدقاء من مياه الإسماعيلية قبل لحظات من غرقى، وهى اللحظة التى علمت فيها بفوزى بإحدى الجوائز ذات يوم، وهى اللحظة التى ظهر فيها أول شارب لى وحاولت تنميته بقلم أبى الكوبيا فضربتنى والدتى، وهى اللحظة التى تصببت فيها عرقاً عندما شاهدت فيها امرأة – من الأقارب - تستحم من ثقب الباب، وهى اللحظة التى استلمت فيها أول مكافأة لنشر مقال لى، فذهبت – كمحمد على – وهو يدك أبواب الأستانة – واشتريت قميصاً بكل المكافأة، وهى اللحظة المريرة التى شاهدت فيها بعض الأشباح يحملون أثاث بيتى بناء على رغبة زوجتى، وهى اللحظة التى هربت فيها من البيت ذات يوم قبل أن تقبض على السلطات بأمر أبى.

هذه اللحظات غالية وثمينة وهى القادرة على زلزلة المشاعر، وهى التى تجعلنا نوقف الزمن، وتميزه أيضاً، وتصبح هى نواصى التواريخ، ومقدمات الأحداث وجوهرها.

المهم هو كيف نخرجها من داخل أحشائنا، وأن نجعلها حرة على الورقة البيضاء وليست محبوسة بين سطرين، أن نبوح ونحكى ونقول دون وجل، ودون خوف، ودون قلق، أن نستدعيها ونخرجها.

الشىء الوحيد القادر على ذلك هو الكتابة.

هذه اللحظات التى نضحك عليها الآن، ونحن جالسون أمام التليفزيون أو فى انتظار الأتوبيس أو على المقهى مع الأصدقاء، هى اللحظات التى تسجل كتابتك فى جبهة التاريخ.

إنها الكتابة الثمينة والغالية والماكرة والقادرة على زلزلة المشاعر وترويض حرارة الأيام، وإخراجها فى كتابة حقيقة - أى كتابة - فالزمن الذى توقفه لن يصنف كتابتك بقدر ما يتذكر هزيمته أمامك.