ضربة قلم
اليهود يبررون مزاعمهم ومطامعهم فى البحر الأحمر على الدوام بالأساطير الدينية وقصص العهد القديم. ويرجعون علاقتهم التاريخية بالبحر الأحمر إلى ذلك الجزء من ساحل البحر الممتد من جنوب خليج العقبة (حوالى 250 ميلاً فى مواجهة المملكة السعودية) وتسمى هذه المنطقة بـ(مدين) وهى موطن النبى العربى "شعيب" الذى لجأ إليه سيدنا موسى عليه السلام بعد أن قتل مصريًا انتقامًا لواحد من قومه. ووفقًا لمزاعم اليهود فإن مدين تشمل مدينتى تيما وخيبر اللتين عاش فيهما بعض اليهود من العرب المتحولين إلى اليهودية، وكذا من يهود شتتهم الرومان وذلك فى العصر الجاهلي. كما تشير بعض أسفار العهد القديم إلى تعامل سيدنا سليمان عليه السلام تجاريًا مع الفينيقيين وتجاريًا وسياسيًا مع المصريين القدماء فى البحر الأحمر.. لم ينقطع الاهتمام الصهيونى بالبحر الأحمر يومًا ما ففى أواخر القرن التاسع عشر قام يهودى ألمانى (بول فريدمان) بزيارة منطقه البحر الأحمر وبعد ذلك أقنع المسئولين البريطانيين فى القاهرة بخطته لتوطين يهود من الروس والرومانيين والهنجاريين فى أرض مدين على البحر الأحمر وإنشاء مستوطنة يهودية مستقلة. وفى نوفمبر عام 1891 غادر ساوثامبتون متجهًا إلى البحر الأحمر برفقة خمسين جنديًا، وأعلن نفسه ملكًا يهوديًا على مدين، مما أثار مخاوف العثمانيين ومن ثم رفضهم خشية أن تنطوى هذه المغامرة على خطة بريطانية لاحتلال يمكن أن يعيق فى المستقبل قوافل الحج إلى مكة المكرمة. واستفاد "هرتزل" من تلك المحاولة الفاشلة وحاول فى عام 1902 إقناع جوزيف تشمبرلين بالسماح لعشرة ملايين يهودى باستيطان فلسطين المصرية (سيناء) المطلة على الجزء الشمالى من البحر الأحمر وتحويل مياه النيل إليها. وعندما أوصت لجنة بيل فى عام 1937 بتقسيم فلسطين حث "بن جوريون" اليهود على استيطان منطقة النقب للاحتفاظ بها عند أى تقسيم فى المستقبل وهو ما حدث فى عامى 47/1948. ومارسوا ضغوطًا على الرئيس الأمريكى "ترومان" وتم اغتيال مبعوث الأمم المتحدة (برنادوت) على يد عصابة شتيرن لأنه حاول استبعاد النقب من الدولة اليهودية فى فلسطين، وكان أحد أعضاء تلك العصابة مناحم بيجين الذى وقع اتفاقية كامب ديفيد مع الرئيس السادات بعدما أصبح رئيسًا لوزراء إسرائيل. وإصرار الصهاينة على منطقة النقب يرجع إلى أن إيلات هو ميناء إسرائيل الوحيد على البحر الأحمر الذى وصفه بن جوريون بأنه «حياة أو موت إسرائيل» وقال إن أمن إسرائيل يتلخص فى جملة واحدة «كل شيء لابد أن يتجه صوب الجنوب» للتجارة مع آسيا وأفريقيا. وكان تأمين الملاحة الإسرائيلية فى مضايق تيران أحد الأهداف الرئيسية لاشتراك إسرائيل فى العدوان الثلاثى على مصر ـ حسب وصف موشيه ديان ـ حيث أجبرت أمريكا الدول البحرية على ضمان حرية مرور إسرائيل فى مضايق تيران. وعندما أغلق "عبدالناصر" المضايق لحظر الملاحة الإسرائيلية كانت هزيمة يونيو، حيث احتلت سيناء بما فيها جزيرتا تيران وصنافير وتضمن قرار مجلس الأمن رقم (242) حق إسرائيل فى استخدام خليج العقبة للملاحة. وبعد انتصار أكتوبر وقّع السادات معاهدة السلام التى أقر فى مادتها الخامسة بحق إسرائيل فى المرور الحر فى قناة السويس واعتبار مضيق تيران وخليج العقبة من الممرات الدولية المفتوحة دون عائق.. خليج العقبة هو الذراع الشمالية الشرقية للبحر الأحمر طوله 110 أميال ويتراوح عرضه بين 8 أميال إلى 17 ميلاً، ويحيط به الأردن بخط ساحلى يبلغ خمسة أميال والسعودية (94) ميًلا وإسرائيل سبعة أميال ومصر 125 ميلاً. وعدد الجزر فى البحر الأحمر 279 جزيرة منها 126 جزيرة بإريتريا قامت إسرائيل يإقامة قاعدة على بعضها واستأجرت البعض الآخر فى مواجهة باب المندب رغم الدعم العربى لانفصال إريتريا عن إثيوبيا، ويبلغ نصيب السعودية 144 جزيرة وجيبوتى 6 والسودان 36 واليمن 41، أما مصر فيصل نصيبها إلى 26 جزيرة أهمها شدوان وتيران وصنافير.. الدول المطلة على سواحل البحر الأحمر كانت خارج التاريخ يقتات أهلها خشاش الأرض أو يبحثون عن شربة ماء فى الفلاة القاحلة ولم يسعفها ضعفها يومًا ما للاستفادة من هبات الجغرافيا عدا مصر التى سيطرت بسفنها وتجارتها وتسيدت الملاحة بطول البحر وعرضه فى وقت كان يطلق عليه اسم «بحر الظلمات» خوفًا من ارتياده ليلاً. بالأمس عشنا مرحلة الخصخصة واليوم نعيش مرحلة «قصقصة» الحدود.. إذا كنا قد أهدرنا حقائق التاريخ فكيف بنا نتجاهل ضرورات الجغرافيا؟!. ماذا لو أن بنى إسرائيل قد عاودهم حلم مملكة مدين؟ حينئذ لن تكون صنافير وتيران بل وربما خيبر أيضاً فى زمن انتهت فيه المعجزات والطير الأبابيل.